تاريخ لفظة "ترجم" في السياق الثقافي العربي (من عصر ما قبل الإسلام إلى العصر العباسي)

تاريخ لفظة "ترجم" في السياق الثقافي العربي

(من عصر ما قبل الإسلام إلى العصر العباسي)

History of the Term "Tarjama"[to translate] in the Arab Cultural Context (From the Pre-Islamic Period to the Abbasid One)

 

مقدمة:

يشهد تاريخ الترجمة في الثقافة العربية شُحّا واضحا في التأريخ لتطور لفظة "ترجم" في السياق اللغوي العربي وفي التعليل المعقول للندرة في تداول اللفظة قبل قيام الدولة العربية الإسلامية في القرن السابع للميلاد وانفتاحها على باقي ثقافات العالم القديم، وبالخصوص مع تجربة العصر العباسي الرائدة، "بيت الحكمة"، التي كانت أول مؤسسة في تاريخ أمم الأرض تعنى بترجمة التراث الإنساني إلى اللغة العربية.

فإلى أي زمن يعود استعمال أولى الألفاظ الدالة على فعل الترجمة في التاريخ الثقافي العربي؟

وهل عرف قدماء العرب الترجمة كممارسة تواصلية مستقلة ومحددة أم أنها كانت استمرارا لأشكال التواصل الأخرى الشفهية والتحريرية؟

لماذا تعج المخطوطات والرسائل والكتب العربية المتعاقبة في الزمن بأفعال متغيرة باستمرار للدلالة على ممارسة واحدة بينة وفعل تواصلي عادي وضروري في الحياة التواصلية بحيث يظهر في هذا المرجع ك"تفسير" وفي ذلك المصدر ك"نقل" وفي ذلك المخطوط ك"ترجمة"؟...

هل كان للزمن ولتعاقب العصور تأثير على التحولات التي طرأت على الألفاظ الدالة على الترجمة؟

هل كان للمترجمين الأجانب دور في توليد المصطلحات الدالة على الترجمة بناء على المصطلحات الأصل في ثقافاتهم الأصلية وبالتالي استبدال المصطلحات القديمة بأخرى محدثة؟

ألا يوجد هامش للسياسة، من خلال منطق العصبية القبلية، كي تمارس فعل التحكّم في المادي والرمزي من الإنتاج الثقافي العربي بما في ذلك الترسانة الاصطلاحية؟

هنا، في هذا البحث، نحاول تقديم أجوبة على هذه الأسئلة وغيرها من خلال مساهمة تراثية تاريخية تتقصد رفع اللبس التاريخي للفظة "ترجم" في السياق الثقافي العربي، معتمدة على الحفر في طبقات تشكل اللفظة بموازاة مع النبش في الوثائق اللغوية المجمعة عبر التاريخ العربي ومقارنتها بعضها ببعض في زمانها ثم مقارنتها مع مُقابِلاتها في زمننا هذا. اعتماد المقارنة على المحورين، الأفقي والعمودي، رهان علمي نقصد من خلاله توضيح مسارات تطور الدوال المحيلة على لفظة "ترجم" وتوضيح أشكال تطورها عبر الزمن.

 

1. الترجمة من خلال الدلالة اللغوية المتغيرة في السياق الثقافي العربي المتغير:

1.1. لفظة "ترجم" في فترة ما قبل الإسلام:

1.1.1. لفظة "ترجمان" اسم فاعل من دون فعل متداول:

تَعَقّبُ لغة العرب في مرحلة ما قبل الإسلام يتطلب من الباحث النبش في ديوان العرب، الشعر العربي، الذي يعتبر بحق ذاكرة العرب المحفوظة. وخلال عملية النبش هذه، يصعب العثور في أشعار الجاهلية، قبل القرن السابع للميلاد، على استعمالات شائعة للفظة "ترجم". ففي قصيدة الأسود بن يعفر النهشلي (المتوفى سنة 600 م) نقرأ: 

وقد ثَوَى نِصْفَ حَوْلٍ أَشْهُراً جُدُدُاً

 

بِــبابِ أَفَّــانَ يَـبْـتارُ السَّلالِيـــمَا

حـتَّى تـــَنــاوَلَـها صَهْـباءَ صافِـيـةً

 

يَرْشُـو التِّجارَ عليها والتَّرَاجِيمَا (1)

وقد جاء في حاشية المفضل الضبي على القصيدة ما يلي: "التراجيم: خدم من خدم الخمارين. وهذا المعنى ليس في المعجم، وكذلك زيادة الياء في الجمع. ويقال يريد التراجمة، لأن باعة الخمر عجم يحتاجون إلى من يفهم الناس كلامهم. والأسود شاعر جاهلي كان ينادم النعمان بن المنذر". هنا، لا بد من التمييز بين أمرين اثنين داخل الوثيقة المستشهد بها. الأمر الأول السند والأمر الثاني المتن. فلو كان المفضل ترك المتن حرا دون تعليق أو شرح، لتحررت معه آليات التأويل التي توجه الفهم ومن ثم القراءة الجديدة للدلالة الغامضة، ولكن المفضل أقحم ذاته كسند ليوجه التلقي للمتن فحدد للفظة "تراجيم" دلالتين اثنتين أو معنيين اثنين لا ثالث لهما. وهو إقحام في غير محله لراوي أشعار من القرن التاسع للميلاد (عصر المفضل الضبي) يشرح لفظة مهجورة عاشت قبل القرن السابع للميلاد (عصر الأسود بن يعفر النهشلي) واختفت من كل المعاجم العربية، منذئذ. إذ لم تعد لفظة "تراجيم" موجودة اليوم إلا في معاجم العالم السفلي، معاجم السحر، حيث لا تفيد جمع "ترجمان" وإنما تفيد نوعا محددا من السحر يختص ب"رَجْم" الخصوم من التجار والجيران وغيرهم بطلاسم سحرية بهدف دفعهم الى الرحيل والابتعاد عن المجاورة والمنافسة. وبإقرار اللغويين العرب، فاللفظة المستعملة في البيت الشعري الجاهلي المذكور مشكوك في إحالتها على "التراجمة" (جمع "ترجمان") ويصعب، في الآن ذاته، إحالتها على سحْر "التراجيم" لاختلال المعنى عند الربط بين اللفظتين المعطوفتين، "التجار" و"التراجيم". وعليه، قد تكون لفظة "تراجيم"، في ماضي اللغة العربية، قد أفادت معان أخرى غير "التراجمة" (جمع "ترجمان)" قبل استبدالها بدوال أخرى لتُهجر بعد ذلك ثم تهمل فيطويها النسيان. 

 

2.1.1. "كتب" و"قرأ" كلفظتين بديلتين عن "ترجم":

لم يعط العرب فعل الترجمة اسما أو فعلا دالا ليس لعدم معرفتهم بها أو لعدم حاجتهم إليها أو لانتفاء دورها في حياة العرب وإنما لاعتبارهم الترجمة، في شقها الشفهي الفوري، تكملة للكلام الدائر بين أطراف الحديث مباشرة. وفي شقها التحريري المكتوب، اعتبروا الترجمة تكملة للكتابة حين تنقل النص المكتوب لقراء جدد بلغات أخرى. لقد اعتبر العرب الترجمة "الشفهية" تتمة وتكملة للكلام الدائر بين المتخاطبين. اذ لم يكن الترجمان وسيطا بين المتخاطبين بل واحدا منهم. ولذلك، استعملوا عبارات بديلة عن "ترجم" مثل: "قل له" و"أبلغه" و"بلّغه"... أما في مجال الترجمة "التحريرية"، فقد اعتبروا الترجمة تتمة للكتابة وتكملة لها. أي، أن الترجمة كانت الوجه الثاني للكتابة حيث تتوارى الذات الكاتبة والذاتية في التعبير ليهيمن "التحويل اللغوي" للمكتوب الأصل في لغته الأصل. والوثائق التاريخية تؤكد هذا الطرح.

ابن عم زوجة النبي (ص)، السيدة خديجة بنت خويلد، القس ورقة بن نوفل، شخصية عربية عاشت قبل ظهور الإسلام وقاومت عبادة الأوثان وتدرجت في بحثها عن التوحيد من اليهودية إلى المسيحية وتضيف بعض الروايات أنه أسلم قبل موته لكنها روايات ضعيفة. أما الروايات القوية فهي التي تشهد له بالتمكن من أكثر من لغتين، العبرية والعربية. إذ كان يترجم الكتب المقدسة من لغاتها الأصلية إلى اللغة العربية والعكس صحيح. لكنه كان يقوم بتلك المهام الترجمية فقط للاستعمال الشخصي أو العائلي الصرف شأنه في ذلك شأن باقي مترجمي زمانه من عرب شبه الجزيرة. فقد أحصى الأب لويس شيخو زهاء مئة ترجمة عربية للإنجيل كانت متداولة في فترة ما قبل الإسلام وفقدت جميعها بعد قيام الدولة الإسلامية. ومن المحتمل أن تكون ترجمات ورقة بن نوفل للكتب المقدسة التوراة والإنجيل من بين تلك الترجمات المفقودة من خزائن الثقافة العربية.

المتميز في لغة عرب ما قبل الإسلام كونهم أنهم يسمون "المترجم الفوري" بين المتحادثين "ترجمانا" "يبلغ" ما شاء من الكلام للطرف الأول أو للطرف الثاني. لكنهم كانوا يغيرون الاسم من "ترجمان" إلى "قارئ" إذا استهدفت الترجمة الفورية ترجمة نص مكتوب أثناء قراءته. وهو ما يصطلح عليه اليوم بـ"الترجمة الفورية المنظورة" Sight Interpreting. وفي هذا الصدد، نضرب مثلا بما أورده الإمام البخاري في "صحيحه" إذ أكد على أن القس ورقة بن نوفل كان "يقرأ الإنجيل بالعربية". (2) أي، أن ورقة، بحكم تمكنه من اللغتين، اللغة الأصل واللغة الهدف، كان "يترجم فوريا" النص المقدس. فبالنسبة لعرب ما قبل الإسلام، يبقى قارئ النص المكتوب قارئا مهما تغيرت لغات النص بين دفتي الكتاب بين يديه ولا ينزل ذلك القارئ إلى مرتبة الوسيط أو الترجمان. ونحن، هنا، نرجح ترقية "الترجمان" إلى "قارئ" لأن القراءة والكتابة كانتا "عزيزتين" على عرب ما قبل الإسلام وأن العارفين بالقراءة والكتابة كانوا من علية القوم وأسيادها حتى أن المؤرخ اليعقوبي أورد في "تاريخه" أن العرب كانت أمة أمية وكان القادرون على القراءة والكتابة في مكة، مثلا، قبل البعثة معروفين لدى بعض المؤرخين عدّاً وتسميةً. (3)

رافق سمو القراءة، لدى عرب ما قبل الإسلام سمو الكتابة. ولا أدل على ذلك من تكريم العرب لشعرائهم العشر في "المعلقات العشر" بكتابة أشعارهم بماء الذهب وتعليقها على الكعبة المشرفة. لذلك، كان عرب ما قبل الإسلام يسمون المترجم الوسيط في المجال المكتوب "كاتبا" "يكتب رسالة أو نصا أو كتابا بلغة من اللغات". وهو ما يجب اعتباره تكريما للمترجم الذي يتحرر من جبة الوساطة ليصبح كاتبا أصيلا في اللغة الأخرى. ولتجسيد هذا الطرح، نستعير كلمات ابن كثير في "البداية والنهاية" إذ أورد أن ورقة بن نوفل كان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل ما شاء أن يكتب. (4) أي، أن ورقة كان "يترجم" الكتاب العبراني فـ"يترجم" من الإنجيل ما شاء أن "يترجم". وورد في "صحيح البخاري" أن ورقة كان يكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء أن يكتب. (5) أي أن ورقة كان "يترجم" الإنجيل إلى اللغة العربية من اللغة العبرية، إحدى اللغات القديمة التي كُتِبَ بها الإنجيل بالإضافة إلى الآرامية. ومجمل القول، إن ورقة بن نوفل كان ممثل عصره. فقد كان يمارس الترجمة التحريرية Translating حين كان "يكتب" باللغة العربية النصوص المكتوبة أصلا بلغات أجنبية. كما كان بن نوفل يمارس الترجمة الفورية المنظورة حين كان "يقرأ" النصوص المكتوبة بلغات أجنبية "مباشرة" بلغته العربية. 

 

3.1.1. ما بين "الترجمة" و"السيرة"

لملحمة"، في آداب العالم القديم، لها مقابل عربي وهو "السيرة"، أو السيرة الشعبية. فملحمة "جلجامش" وملحمة "الإلياذة" وملحمة "الأوديسة" وملحمة "الشاهنامة" وغيرها كان لها ما يقابلها في الأدب الشعبي العربي في عصر ما قبل الإسلام. إذ كانت هناك "سيرة سيف الدين ذي يزن" وسيرة "عنترة بن شداد" وسيرة "الزير سالم" وغيرها. ف"السيرةلدى عرب ما قبل الإسلام، كانت تفيد "الملحمة" لدى غيرهم من الأمم. فقد كانت "السيرة" مستوحاة من التراث العربي الخالص تمجد فيه قيم النخوة والشهامة العربية وتناضل ضد الظلم والاستعباد والغدر والخيانة. كما كانت شخصيات هذه السير الشعبية أبطالاً غير عاديين يرتقون إلى مراتب الخوارق. كما كانت "السيرة" بالضرورة مطولة من حيث الحجم وخارقة من حيث الأحداث واستثنائية من حيث الأبطال. وإذا ما تغيرت هذه الشروط الثلاثة، فقدت "السيرة" مكانتها لتصبح مجرد "ترجمة" مختصرة لشخصيات عادية تعيش أحداثا عادية. لذلك، كان "للسيرة" مؤلفوها وهم الأدباء الشعبيون فيما كان "للترجمة" مؤلفوها وهم النسابة والإخباريون. إذ كانت "الترجمة" تعنى بالتدقيق في النسب على خلفية شجرة الأنساب، فيما صار يعرف "بعلم التراجم" أو "علم الأنساب"، يقابلها الفعل "ترجم لفلان" والنعت "ترجمي".

 

2.1.  لفظة "ترجم" في صدر الإسلام:

يبدأ عصر صدر الإسلام من تاريخ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي عليه إلى غاية حكم آخر خليفة راشدي، علي بن أبي طالب، في السنة الأربعين للهجرة. ويقسم المؤرخون هذا العصر بدوره إلى فترتين: الفترة الأولى التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم حيا يزاول مهام الدعوة بنفسه. وتميزت هذه الفترة بداية بنزول الوحي ثم بالدعوة للدين الجديد وانتهاء بالسعي الحثيث لتأسيس دولة الإسلام. أما الفترة الثانية من صدر الإسلام، فهي الفترة التي خلف فيها الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في قيادة المسلمين وإمامتهم، فترة الخلافة الراشدية. وقد امتدت هذه الفترة لثلاثين عاما كان أهم ما ميزها الوعي الحاد بمخاطر تبدد جهد الرعيل الأول من المسلمين والذي تشهد عليه محاولات جمع القرآن (في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه) وجمع السنة (في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه) وتدوينهما (في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه) وتأهيل اللغة العربية (في عهد علي أبي طالب رضي الله عنه) لتكون وعاء لهما (أي القرآن والسنة) بعدما أظهرت الأعاجم صعوبة في قراءة اللغة العربية والاطلاع على الدين الجديد.

سارت هذه المحاولات جنبا إلى جنب مع الانشغال بالدعوة والمفاوضات والجهاد والفتح على الجبهة الخارجية وحروب الردة على الجبهة الداخلية. وعليه، لم يعرف صدر الإسلام بشقيه ترجمات خارج الترجمات العابرة كترجمة المراسلات (الترجمة التحريرية) وترجمة المفاوضات (الترجمة الفورية) نظرا لانشغال المسلمين بالتأسيس للدين الجديد وتوسيع رقعته ومحاربة آثار الوثنية وفلول المرتدين والعناية باللغة العربية تبسيطاً وتنقيطاً وشكلاً، فضلا عن جهود تدوين القرآن الكريم الذي صار لاحقا لبنة أساسية لفلسفة تدوين كل المرويات الشفهية والروايات المحفوظة لاحقا. ومن ثم، صارت مرحلة تدوين القرآن الكريم في الوقت ذاته مرحلة تأريخية لانتقال العرب من عهد الجاهلية إلى عهد الإسلام، ومن عهد الحفظ إلى عهد التدوين، ومن عهد الرواية إلى عهد التوثيق.

 

1.2.1.  لفظة "ترجم" في الفترة الأولى من صدر الإسلام:

روى عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وليلقين اللهَ أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فيقولن له: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ (6) وهي من أندر الاستعمالات للفعل "ترجم" في تلك الفترة إذ "يندر" العثور على الفعل "ترجم" في أشعار عرب ما قبل الإسلام ومراسلات عرب ما قبل القرن السابع الميلادي. فقد كان العرب يتداولون اسم الفاعل "ترجمان" دون الفعل "ترجم" الذي كانوا يستبدلونه بأفعال أخرى مثل: "بلغ" و"أبلغ" وغيرهما. معنى هذا أنه في الفترة الأولى من صدر الإسلام، استعمل النبي صلى الله عليه وسلم الفعل "ترجم" بمعناه الاصطلاحي المستعمل اليوم. وهو استعمال قد لا يكون الأول في تاريخ اللغة العربية ولكنه الأوضح لأنه ورد في سياق صحيح ومتفق عليه. هذا من ناحية التداول اللغوي العملي للفعل "ترجم". أما من ناحية الوعي بقيمة الترجمة وبأهميتها، فقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم على تشجيع عموم أتباعه على القراءة والكتابة كما حث النخبة من الصحابة على الانفتاح على اللغات والتمكن من آليات الترجمة لتسهيل التواصل والتراسل مع زعماء العالم القديم.

خلال فترة صدر الإسلام، انشغل النبي صلى الله عليه وسلم، من جهة، بنشر رسالة الإسلام؛ ومن جهة ثانية، عمل صلى الله عليه وسلم على نقل مجتمع المسلمين من ثقافة الحفظ والذاكرة إلى ثقافة التدوين والتوثيق. ولهذا، حظيت الكتابة برعاية مميزة من النبي صلى الله عليه وسلم الذي حرر أسرى غزوة بدر لقاء تعليم هؤلاء لأبناء المسلمين الكتابة والقراءة، والذي أرسل إلى المناطق التي دخلت قبائلها الإسلام من يعلم المسلمين الجدد قراءة القرآن الكريم. فسار معاذ بن جبل إلى اليمن ومصعب بن عمير إلى المدينة المنورة وغيرهما إلى مناطق أخرى من بلاد الإسلام. وفي جميع الأحوال، حصر النبي صلى الله عليه وسلم دائرة اشتغاله، خارج الدين، في حث "عموم" أتباعه على تعلم القراءة والكتابة باللغة العربية وتشجيع "النخبة" من صحابته على الترجمة من اللغة العربية وإليها ولو أن التاريخ لا يذكر مترجما ثالثا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ما خلا سلمان الفارسي وزيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي رضي الله عنهما.

اختص الصحابي سليمان الفارسي رضي الله عنه في الترجمة التحريرية الدينية، في صورتها الجنينية آنئذ، إذ كان صاحب أول ترجمة للقرآن من خلال نقله لسورة "الفاتحة" من اللغة العربية إلى اللغة الفارسية استجابة لطلب الفارسيين من المسلمين. أنجز سلمان هذه الترجمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد استئذانه شخصيا، الأمر الذي سيمنح علماء الدين المسلمين، قرونا بعد ذلك، الضوء الأخضر بإباحة ترجمة معاني القرآن ليطلع عليها غير العرب من المسلمين ويستفيدوا منها. أما المترجم الثاني فكان "ترجمان النبي"، الصحابي زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه الذي تخصص في الترجمة التحريرية الرسمية، ترجمة مراسلات النبي صلى الله عليه وسلم مع ملوك العالم القديم وأباطرته، لتمكنه من اللغات الفارسية والعبرية واليونانية والسريانية تمكنا تاما.

يستنتج مما سبق ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن له سياسة لغوية البتة ولم يفرض اللغة العربية على غير العرب من المسلمين لسبب بسيط للغاية وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفتح بلدانا أعجمية خلال حياته. إذ كانت المناطق التي دخلت الإسلام "جميعها" مناطق عربية اللسان. فالسياسة اللغوية الأولى في تاريخ الحضارة العربية-الإسلامية بدأت مع ولاية الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي فتح بلاد العجم من فارس، مرورا بالشام ووصولا إلى مصر. وقد صار لهذه السياسة اللغوية اسم يميزها من غيرها ويؤرخ بها للتاريخ: "التعريب".

 

2.2.1. لفظة "ترجم" في الفترة الثانية من صدر الإسلام:

في الفترة الثانية من صدر الإسلام، خصوصا في ظل حكم الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث اجتمع "فجأة" تحت راية الدولة الإسلامية الواحدة القبطي والفارسي والسرياني والعربي، بدأت أولى بوادر التجديد اللغوي من خلال تشغيل آليات التوليد اللغوي العربي عبر سك دوال جديدة للدلالة عن واقع جديد كلفظة "تعريب" التي صارت دلالة على سياسة تجميع اللغات المتكلم بها في البلدان المفتوحة في لغة إدارية واحدة؛ أو توليد دلالات جديدة من ألفاظ قائمة الذات كلفظة "أبلغ" التي استعملت محل لفظة "ترجم" التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته. وهي اللفظة التي صارت تفيد نقل الكلام من لغة الأعجمي إلى لغة العربي ومن لغة العربي إلى لغة الأعجمي لتسهيل عملية التواصل وتسريعها في فترة زمنية حساسة.

 

1.2.2.1. لفظة "عرّب" في سياسة عمر بن الخطاب اللغوية: 

لتدبير الشأن اللغوي أهمية رفيعة لدى الأمم عبر التاريخ. ولأهميته هذه، فقد حظي بعدة تسميات من عدة جهات مهتمة. فبينما يعتمد الأكاديميون مصطلحا علميا "حديثا" و"محايدا" للدلالة عليه وهو مصطلح "التخطيط اللغوي" Linguistic Planning، يستعمل السياسيون مصطلحا مغايرا وهو مصطلح "السياسة اللغوية" Linguistic Policy، فيما يبقى المصطلح الأكثر شيوعا هو المصطلح "العرقي"، "تعريب" Arabisation، والذي يقابل في لغات أخرى مصطلحات عرقية موازية من قبيل الألمنة Germanisation والفرنسة  Francisationوالأنجلزة Anglicisation والروسسة Russianisation والأسبنة Hispanicisation والطلينة Italianisation والصيننة Sinicisation  والتتركة Turkicisation، إلخ. وإذا كان مصطلح "التخطيط اللغوي" هو الأحدث والأكثر حيادية، فإن مصطلح "السياسة اللغوية" رافق فلسفة الحداثة منذ ظهورها واشتغلت به الدول الاستعمارية حيثما حلت وارتحلت ورفعت به من قيمة لغاتها وحطت من قيمة لغات المستعمرات. أما مصطلح "تعريب" فيبقى الأقدم بين المصطلحات الثلاثة. ولأنه كذلك، يعتبر الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب هو رائده الأول الذي مهد الطريق للرائد الثاني "للتعريب"، الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، بعد قرن من الزمن، إذ رَسّم "التعريب" وأقره بقوة القانون ووسع مفهومه.

في الوقت الذي ربط فيه المسلمون الأوائل حكم المسلمين بالحاكم القرشي، ارتبط الإسلام ب"التعريب" منذ بدايات الرسالة المحمدية فاكتسبت اللغة العربية غطاء دينيا وقدسية دنيوية. ويعود الأمر في أصوله الأولى إلى اجتماع "سقيفة بني ساعدة"، عقب وفاة النبي عام 11 هجري، حيث تقرر "تعريب" نظام الحكم في الإسلام. وهو الخط الذي دافع عنه خلال الاجتماع كل من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما لكون "العرب لا تسمع لغير قريش" (7) وأن الحاكم يجب أن يكون "قرشيا". (8) أما الهدف فكان البحث عن نواة صلبة تشد الدين الجديد ضد كل أشكال القوى الطاردة الممكنة. فكانت اللغة العربية هي تلك النواة الصلبة الجاذبة. ومع تولي عمر بن الخطاب مقاليد الحكم خلال الفترة الراشدية، اتخذ "التعريب" دلالات أخرى أملتها الظروف التنظيمية والسياسية والعسكرية واللغوية فصار "التعريب" تارة لغويا وتارة إداريا وتارة ماليا/نقديا. وفي الحالات كلها جميع الأحوال، فقد اتخذ "التعريب" العُمَري مفهوما "مغلقا" وضع اليد العربية على كل مناح الحياة ليس لتسهيل التواصل وإنما لتأهيل الدولة الوليدة وضبط مؤسساتها.

وعليه، لم يكن "التعريب"، في البداية، مصطلحا "ثقافيا" مجاورا للترجمة والتواصل وإنما كان مصطلحا "سياسيا" مجاورا للمصلحة والمنفعة. لم يكن هدف "التعريب" العُمَري ترجمة ثقافات العالم القديم واستيرادها كما سيحدث لاحقا مع العهدين الأموي والعباسي. لم يكن عمر رضي الله عنه منشغلا بـ"استيراد ثقافة الآخر" بل كان منشغلا بـ"تصدير ثقافة الذات" من خلال تصدير الدين الإسلامي إلى دول الجوار. ولذلك، كان القصد من وراء "التعريب" العُمَري هو فرض سياسات بعينها في مجالات الإدارة والمال واللغة. ف"عرب" الدواوين الكسراوية و"عرب" الدرهم الفارسي وضربه في المدينة المنورة و"عرب" اللغة فحرم التشهد والآذان والصلاة والحج بغير اللغة العربية كما أمر بـ"جلد" كل من يلحن في مراسلاته من المسؤولين تحت إمرته بـ"سوط واحد". وأرفق هذه القوانين بعقوبات زجرية للمتهاونين ممن يخالفون الأمر تبدأ بالجلد وتنتهي بالسجن. أما الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي سلك النهج العمري ذاته بعد قرن من الزمن، فقد أوصل العقوبة، خلال فترة حكمه في العصر الأموي، إلى القتل إذا ما ثبت تعامل أي كان من رعاياه بغير الدينار العربي. (9)

 

2.2.2.1. لفظة "أبلغ" كمقابل أخلاقي للفعل "ترجم": 

ذكر الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" أن رابع "دُهاة العرب" ومبعوث عمر بن الخطاب رضي الله عنه للتفاوض مع رستم، المغيرة بن شعبة، ذهب للقاء قائد جيش الفرس قبل معركة "القادسية" في القرن السابع للميلاد، دون التفكير في تعزيز وفده بترجمان. وهذا، من جهة، دليل عن غياب ثقافة الترجمة في الثقافة العربية قبل الإسلام والتي ألقت بظلالها على صدر الإسلام نفسه، وإشارة واضحة على أن الترجمة التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم إرساء ركائزها لم تستمر بعد وفاته، وأن الترجمة عادت إلى خارج دائرة الاهتمام الذي كانت فيها قبل مجيء الإسلام. وخلال المفاوضات بين الطرفين، تفاجأ المغيرة بن شعبة، المفاوض العربي، بكون رستم يستخدم ترجمانا لتسهيل عملية التواصل لدى فريقه على الجهة الأخرى من طاولة المفاوضات لفائدة الفرس، فسارع لطلب خدمة ذات الترجمان له هو أيضا ولكنه لم يستعمل لفظة "ترجم" في طلبه هذا وإنما استعمل لفظة مغايرة وهي "أبْلغَ":

"دعا رستم (وهو فارسي) بالمغيرة فجاءه حتى جلس على سريره. ودعا رستم ترجمانه، وكان عربيا من أهل الحيرة يدعى عبود. فقال المغيرة: 'ويحك يا عبود، أأنت رجل عربي؟ فأبلغه عني إذا تكلمت كما تبلغني عنه إذا كلمني'". (10) 

واضح في هذه الوثيقة التي أوردها الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك" أن المغيرة بن شعبة تصرف بتلقائية لا تخطئها العين. تلقائية أملاها رد الفعل الناتج عن عدم الرغبة في إضاعة الفرصة أكثر من كونه أمرا آخر، تلقائية "سرّعت" استعمال الفعل الذي لم ينتبه له دارسو تاريخ الترجمة في السياق العربي وهو فعل "أبلغ" الذي يفيد "أوصل الأمانة" و"أخطر بمضمون ما" وأخبر وأعلم "على أكمل وجه". فهو الفعل الذي يفيد "نقل مضمون النص دون خيانة أو تقصير".  وهو الهاجس الأبدي للترجمة والمترجمين والتراجمة والمتلقين على السواء:

 

"بَلغَ الشيءُ يَبْلُغُ بُلُوغاً وبَلاغاً: وصَلَ وانْتَهَى. وأَبْلَغَه إِبْلاغاً وبَلَّغَه تَبْلِيغاً؛ وقولُ أَبي قَيْسِ بنِ الأَسْلَتِ السُّلَمِيِّ: قالَتْ، ولَمْ تَقْصِدْ لِقِيلِ الخَنى مَهْلاً فقد أَبْلَغْتَ أَسْماعي إِنما هو من ذلك أَي قد انْتَهَيْتَ فيه وأَنْعَمْتَ. وتَبَلَّغَ بالشيء: وصَلَ إِلى مُرادِه، وبَلَغَ مَبْلَغَ فلان ومَبْلَغَتَه". (11) 

مرحلة صدر الإسلام كانت مرحلة "الانفجار" و"التمدد"، باستعارة المعجم الفيزيائي. أما المرحلتان اللاحقتان، الأموية والعباسية، فكانتا مرحلة "الاستقرار" وما يتطلبه عادة الاستقرار لمقاومة الرتابة: "الإشعاع" الثقافي الديني والدنيوي. لكن الإشعاع الثقافي يتضمن في جوهره العبقرية ويتضمن بدرجة أكبر الاستفادة من عطاءات الثقافات السالفة والمجاورة وهذا ما توفره، مبدئيا، الترجمة. فإذا كانت مرحلة صدر الإسلام مرحلة "طي" صفحة الماضي، صفحة ما قبل الإسلام أو الجاهلية، فإن مرحلة العصرين الاموي والعباسي كانتا مرحلتي "فتح" صفحة جديدة في التاريخ العربي-الإسلامي. ولذلك، تبوأت الترجمة مكانها الشاغر وباشرت مهمتها الحضارية والتاريخية.

 

3.1. لفظة "ترجم" في العصر الأموي:

1.3.1. "فسّر" كفعل أموي مميز للترجمة: من زمن التبليغ إلى زمن الإصغاء 

كانت مرحلة صدر الإسلام مرحلة "تبليغ" الرسالة المحمدية. وربما، لهذا السبب، هيمن الفعل "بلّغ" و"أَبْلَغَ" على العملية التواصلية في هذه الفترة بين العرب وغير العرب من جهة، وبين المسلمين وغير المسلمين من جهة ثانية. وهذا ما لن يحدث في الفترة الموالية، في العصر الأموي، حيث سيتم الانتقال من "تبليغ" رسالة الذات وتتبع درجة الوفاء في الأمر إلى "الإصغاء" لرسالة الآخر و"تفسير" مضمونها. أي أن الانتقال السياسي من عصر صدر الإسلام إلى العصر الأموي، وازاه، على المستوى الثقافي انتقال من مفهوم "تملك الحقيقة" الذي تتضمنه لفظة "أَبْلَغَ" إلى مفهوم "الإصغاء للآخر" التي تتضمنه لفظة "تفسير". وما بين العصرين واللفظتين معا يكمن "انتقال" تاريخي سيشكل منعطفا ثقافيا في تاريخ الإنسانية وينقل الترجمة من طبيعتها البدائية كفعل فردي غير منظم إلى "حركة ترجمة" لا عهد للإنسانية بها، حركة ابتكرها العرب للاستفادة من تجارب غيرهم من الأمم وفهم ثقافات الأقوام تحت سلطتهم وتأسيس ممارسة حضارية تنبني على "الإصغاء" للآخر و"التبادل" الثقافي و"التقاسم" المعرفي.

 

2.3.1. مبررات اعتماد لفظة "فسّر" في مجال الترجمة في العصر الأموي:

1.2.3.1. المبرر الأول: تحيين المعجم الترجمي العربي

اختيار لفظة "تفسير" في العصر الأموي للدلالة على فعل الترجمة كان "تحيينا" لغويا. ويُرَجحُ أن يكون هذا "التحيين" قد تم على يد المترجمين الأعاجم الذين استدعاهم الأمير خالد بن يزيد بن معاوية لترجمة كتب العلوم التي كان يطلبها ليملأ الفراغ الذي وجد نفسه فيه بعد إقصائه من الحكم وانتقال دفة تسيير حكم البلاد إلى السلالة المروانية. لقد كان المترجمون الأوائل في عصر الدولة الأموية في غالبيتهم أعاجم. وغياب العرب عن فعل الترجمة في هذه الفترة ناتج عن كون الثقافة العربية لم تكن قد راكمت بعد ميراثا رمزيا يفتح الباب للطاقات العربية كي تثبت جدارتها خارج المجالين الديني والأدبي: لا علميا ولا فلسفيا ولا ترجميا. فماسر جويه كان سريانيا وعبد الله بن المقفع وابنه وسالم مولاه وجبلة بن سالم كانوا فُرْساً وبنيامين الشماس كان قبطيا وغيرهم كانوا من جنسيات مغايرة.

ونظرا لكون المترجمين الأوائل، أقباطا وفرسا وسريانا ويونانيين، جاؤوا من مناطق النفوذ الثقافي اليوناني والروماني، فقد انتهى بهم المطاف إلى تبني "مفاهيم" ذلك الفكر الغربي القديم والاشتغال بـ"اصطلاحاته". وهذا ما يفسر اشتغال المترجمين في العصر الأموي بمفهوم "التفسير" ولفظة "فسّر"، على خلفية اللفظة الرومانية القديمة "Interpres" التي كانت مستعملة بشكل واسع في ثقافاتهم الأصلية والتي اعتمدوها كلفظة رسمية للدلالة على الترجمة في السياق العربي الذي استدعوا لتنشيط الترجمة فيه. وبهذه الطريقة، صارت لفظة "فسّر" ليست فقط اللفظة الشائعة في الفترة الأموية بل اللفظة "الرسمية" الدالة على الترجمة بنوعيها، "الفورية" و"التحريرية".

كتب ساويرس بن المقفع، ابن الأديب والمترجم المعروف، عن أول ترجمة للإنجيل إلى اللغة العربية، مستعملا ذات اللفظة، "تفسير": "كان (بنيامين الشماس، أول مترجم للإنجيل إلى اللغة العربية) يحبه (=الهاء عائدة على الأمير الأموي أبو زبان الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان الأموي) أكثر من جماعة أصحابه (=باقي الأقباط) ويظهر له أسرار النصارى بسعايته حتى أنه فسر (=ترجم) له الإنجيل بالعربية". (12) كما أورد ابن جلجل في "طبقاته": "تولى (=ماسر جويه أو ما سرجيس، حسب القراءات) في الدولة المروانية تفسير (=ترجمة) كتاب أهرن القس (من السريانية) إلى العربية". (13) وتأكيدا لرسوخ استعمال لفظة "فسر" في العصر الأموي، يورد ابن العبري، في معرض حديثه عن أقدم ما ترجم إلى اللغة العربية: "ماسر جويه هو الذي تولى في أيام مروان بن الحكم تفسير (=ترجمة) كتاب أهرن القس ("كتاب الطب") إلى العربية". (14) هنا، وجب التدقيق، في استشهاد ابن العبري، أن كتاب أهرن القس ترجم بطلب من الأمير خالد بن يزيد بن معاوية الأموي وليس بطلب من مروان بن الحكم الأموي. (15) وهنا، أيضا، وجب التأكيد على أن لفظة "تفسير" صارت لأول مرة في الثقافة العربية هي المقابل اللغوي للفظة "ترجمة" تماما كما صار الشق الديني منها، "تفسير"، يفيد "شرح" القرآن الكريم للعامة و"تأويله" للخاصة. 

 

1.2.3.1. المبرر الثاني: تعظيم فعل الترجمة   

جاء في "لسان العرب":

"الفَسْرُ: البيان. فَسَر الشيءَ يفسِرُه، بالكَسر، وتَفْسُرُه، بالضم، فَسْراً وفَسَّرَهُ: أَبانه، والتَّفْسيرُ مثله. ابن الأَعرابي: التَّفْسيرُ والتأْويل والمعنى واحد. وقوله عز وجل: وأَحْسَنَ تَفْسيراً؛ الفَسْرُ: كشف المُغَطّى، والتَّفْسير كَشف المُراد عن اللفظ المُشْكل، والتأْويل: ردّ أَحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر. واسْتَفْسَرْتُه كذا أَي سأَلته أَن يُفَسِّره لي. والفَسْر: نظر الطبيب إلى الماء، وكذلك التَّفْسِرةُ (...) وكل شيء يعرف به تفسير الشيء ومعناه، فهو تَفْسِرَتُه". (16) 

يختزل "لسان العرب" دلالات لفظة "فسّر" في مواجهة المتلقي لصعوبات في الفهم وفي حاجته لمن هو أقدر منه على فهم النص أو القول أو العرَض أو المشكل أولا ثم تفسيره له ثانيا. لكن "لسان العرب" لم يشر إلى أن "فسّر" تفيد أيضا "ترجم" رغم أن "فسّر" كانت اللفظة الرسمية الدالة على فعل "الترجمة" في الفترة الأموية في القرنين السابع والثامن للهجرة. ولأن "فسّر" لفظة تفيد بأن من يترجم النص يفهمه فهما شاملا يبوئه منزلة "المُفسّر" كما يمنحه ثقة المتلقي في "تفسيره". وهذا ما كان يتلاءم وطبيعة المجتمع الأموي ويتوافق مع حداثة عهدهم بالعلوم غير الدينية والمنطق غير الديني والمعارف الجديدة عليهم حيث كان "كلّ" مترجميهم من دون استثناء مترجمين "أجانب".

لقد كان الأمويون يشكلون مرحلة انتقالية في تحول المسلمين من مرحلة "البداوة" إلى مرحلة "التمدن"، تبعا لمنظور ابن خلدون للدورة الحضارية الثلاثية الحلقات (بداوة، تمدن، وتفكك). فقد لازم الأمويين الخوفُ من الاجتهاد في الدين والتحفظُ في كل ما قد يخالف القرآن والسنة. وقد بلغ الأمر حد احتفاظ الخلفاء الأمويين بالكتب التي ترجمت في عهدهم سنين عددا على رفوف مكتباتهم الخاصة خوفا من نشرها للعموم ومن ردود أفعال "البداوة" من الرعايا "البدو" والطبقة السياسية "البدوية" إلى أن وجدها مصادفةً الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الذي وصل به الأمر حد صلاة الاستخارة لأربعين ليلة قبل قراره نشر أول كتاب مترجم إلى اللغة العربية وهو "كتاب الطب" لأهرن القس (أو: أهرن بن أعين)، وهو كتاب طبي صرف لا مجال للاختلاف السياسي أو الديني حوله. (17)

حتى عند الترجمة، تفيد اللفظة العربية المقابلة للفظة الرومانية القديمة "Interpres" إحدى اللفظتين: "فسّر" أو "أوّل"، مع ميل كفة السيادة والشيوع لفائدة "فسّر"، التي تحيل على "اختلال التوازن" بين شخصين متخاطبين أو ثقافتين متفاعلتين، على حساب "أوّل". فالفرق بين اللفظتين، "فسّر" و"أوّل"، يكمن في "اتجاه" القراءة: فلفظة "فسر" تحيل على فعل القراءة للآخر أما "أول" فتحيل على فعل القراءة للذات. تستعمل اللفظة الأولى، "فسّر"، في سياقات الاختلاف والتفاوت واللامساواة وتهدف لإقناع الآخرين وضمان الإجماع بقصد الهيمنة. أما اللفظة الثانية، "أوّل"، فتستعمل في سياقات معاكسة يسود فيها الإجماع والاتفاق والتوافق بهدف إسماع صوت مغاير يدعم التحرر من الفهم الواحد والرأي الواحد واجترار المكرور. إذاً كان أمام المترجمين الأوائل، الذين كانوا عجما خياران لكنهم اعتمدوا واحدا وأهملوا الآخر. فقد أهملوا لفظة "أوّل" ورسّموا لفظة "فسّر" التي تفيد دلالات ثلاث. الدلالة الأولى، كون المترجم "يفسّر" لآخرين مختلفين عنه. والدلالة الثانية، أن المترجم "أعلى مرتبة" من الجمهور المُفسّر له. والدلالة الثالثة، أن المترجم "يمرّر درسا" ما دامت الترجمات في العصر الأموي كانت كتبا في العلوم، أو دروسا في العلوم.

 

4.1. لفظة "ترجم" في العصر العباسي:

1.4.1. من اللفظة الأموية "فَسّر" إلى اللفظة العباسية "نقَل":

عندما أعطيت انطلاقة الترجمة لأول مرة في السياق الثقافي العربي، لم يكن وراءها لا قرارات سياسية ولا رعاية مؤسسية من الدولة. وإنما كانت مبادرة فردية من "فرد واحد" من أفراد الأسرة الأموية الحاكمة. هذا الفرد كان هو الأمير المُبعد عن السياسة والحكم، حفيد معاوية بن أبي سفيان، مؤسس الدولة الأموية: خالد بن يزيد بن معاوية أمير أموي خذلته وعود أعمامه "المروانيين" في استرداد حكم أجداده "الأمويين" فانصرف عن السياسة لممارسة ما يحب من العلوم حتى سقط في عشق الكيمياء والطب والفلك ولو أنه أفنى عمره في حب الكيمياء أكثر من الباقي من العلوم توقا منه في التوصل إلى صيغة تمكنه من تحويل المعادن إلى ذهب. (18) وهي موجة جنونية جرفت معها أجيال من الكيميائيين العرب منذ زمنه حتى نهاية الدولة العباسية كما صارت "الكيميائي" تهمة تجر صاحبها إلى المحاكمة والرجم أيام تفكك الدولة العباسية إلى دويلات. ويفهم من سعي الأمير خالد بن يزيد الحثيث إلى تعلم الكيمياء رغبته في استبدال "السعي للسلطة" عبر بوابة السياسة ب"السعي للثروة" عبر بوابة الكيمياء. ولأنه لم تكن في الثقافة العربي، آنئذ، تقاليد في الكيمياء، فقد كان لا بد من ترجمة الكتب ذات الصلة في الموضوع من لغات العالم القديم.

لهذه الأسباب وفي سياق هواية صرفة، طلب خالد بن يزيد بن معاوية الأموي ترجمة ما كان يعشقه من علوم تساعده في تطوير أدائه العلمي، متعمدا على مترجمين من جنسيات شتى. وكان خالد وطبقة تجار عصره يغدقون المال الوفير على المترجمين الذين كانوا يتقاضون أجورهم من الترجمة من خلال وزن مخطوطاتهم بالذهب. (19) وبهذه الطريقة، ترجمت له كتبا في الطب والتنجيم والكيمياء والحروب والآداب. (20) فمن المدرسة الإسكندرانية، كان إصطفان القديم ومريانس الراهب الرومي. ومن المدرسة السريانية، كان ماسر جويه أو ما سرجيس. ومن المدرسة الفارسية، كان جبلة بن فارس وعبد الله بن المقفع وابنه ساويرس بن المقفع... (21)

 

2.4.1. دلالات اختيار لفظة "نقَل" في العصر العباسي:

"نقل" لفظة عربية من حيث اللغة اختارتها الدفعة الثانية من المترجمين الأعاجم في العصر العباسي (باعتبار الدفعة الأولى كانت في العصر الأموي) للدلالة على "فعل الترجمة" على خلفية اللفظة الرومانية-اللاتينية المستعملة آنئذ في بلدانهم التابعة للنفوذ "الروميTranslatare & Transferre. و"نقل" لفظة تحيل على ذات الفعل الذي بدأ أولى خطواته في العصر الأموي، "فسّر"، لكن إصرار العباسيين على "سحق" اللفظة الأموية وترسيم اللفظة العباسية الجديدة "نقل" محلها يشي بوجود خيار إيديولوجي كامن وراء اللفظة الجديدة.

فـ"نقل" لفظة "لغوية" أريد لها "سياسيا" أن تعبر عن مرحلة "انتقال" المجتمع العربي-الإسلامي الى "مرحلة مغايرة"، وأن تكون بالتالي لفظة مغايرة للفظة الأموية "فسر"، على خلفية "نقل" السلطة السياسية من الأمويين إلى آل البيت، العباسيين. وجميع أشكال "النقل" الأخرى في المجالات المادية والرمزية في العصر العباسي مبنية على هذه الخلفية السياسية المحورية مثل: "نقل" عاصمة الدولة العربية-الإسلامية من دمشق عاصمة العصر الأموي إلى بغداد التي بنيت خصيصا لتشهد على هذا "الانتقال" الرمزي، و"نقل" اهتمام الدولة من الفتوحات والغزوات إلى التنمية والتشييد والعمران، و"نقل" الفكر الإسلامي من "النقل" إلى "العقل" وغيرها. فـ"نقل" لفظة مرجعية في العصر العباسي. إنها لفظة "إيديولوجية" احتمت باللغة والفكر والثقافة والفن والدين وباقي مجالات الحياة في القرنين التاسع والعاشر للميلاد بغية تمرير مشاريع التجديد التي ميزت العصر العباسي عن غيره من العصور العربية-الإسلامية.

أما لغويا، فتفيد لفظة "نقل" فعل تغيير المكان أو فعل تغيير الأشياء في المكان أو تغيير مستوى الخطاب أو تغيير المهام أو تحويل النصوص من لغة إلى أخرى أو غيرها من أفعال التغيير والتحويل والنقل. فحين تفيد اللفظة "تغيير المكان" فهي تفيد: نقل جثمان شهيد من مقبرة عمومية إلى مقبرة شرفية، نقل جيش من جبهة قتال إلى أخرى، نقل عاصمة من مدينة إلى أخرى، وهلم جرا. وفي السياق العباسي، كانت لفظة "نقل" خياراً اصطلاحياً يفيد "تغيير لغة" نص مكتوب لجعله مقروءاً ومفهوماً في الثقافة الهدف. كما يفيد أيضا "تغيير مكان" النص المترجم إما لعدم ملاءمة المكان الأصل للنص الأصل أو لعدم جدارته به أصلا. فالعباسيون استعملوا لفظة "نقل" لإيمانهم بأن البيزنطيين لا يستحقون الكتب والعلوم والمعارف التي بحوزتهم وأنه من الواجب "نقلها" إلى البيئة العربية الإسلامية لتتكلم اللغة العربية سواء من خلال شراء تلك الكتب بالمال أم أخذها كغنائم حرب أو مقايضتها بالأسرى الروم أو كشرط لقبول إنهاء حرب. (22) ومع هذا الوجه من أوجه "النقل"، "انتقل" العديد من المترجمين المسيحيين الغاضبين على أشكال تسيير الأمور في الإمبراطورية البيزنطية فتصاعدت وتيرة الترجمة إلى اللغة العربية وتعزز الوضع الاعتباري للمترجم حتى بوأ المترجمَ مُجالسة السلطان في بلاطه وألحقه أحيانا بنادي ذوي النفوذ والمال.

وبالمثل، تفيد لفظة "نقل" "تغيير جهة المسؤولية" (نقل ولاية العهد من أمير إلى أمير، نقل السلطة من حكومة سياسية الى حكومة تكنوقراطية، نقل صلاحيات التفويض من الرئيس إلى المسؤولين المباشرين تماما كما تفيد النقل من "مستوى إلى آخر" خاصة وأن العرب كانوا يرون في اللغة العربية صورة اللغة الأولى، لغة بداية الخليقة، واللغة الأكمل، لغة الشعر. فهي، إذاً، أسمى اللغات وأرقاها وأكملها. ونقل إنتاجات الأمم إلى اللغة العربية هو "ترقية معكوسة": ترقية لتلك الإنتاجات المترجمة وتشريف لها بتوشيحها وشاح "التعريب" و"النقل" و"الترجمة". فالنصوص "تكتمل" بترجمتها إلى اللغة العربية. وهو ما يعادل عبارة "معانقة العالمية"، في زمننا هذا. فقد كتب الجاحظ، وهو الناطق الرسمي لزمانه: 

"وفضيلة الشعر مقصورةٌ على العرب، وعلى من تكلَّم بلسان العرب. والشعر لا يُستطاع أن يترجَم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوِّل تقطَّع نظمُه وبطلَ وزنُه، وذهب حسنُه وسقطَ موضعُ التعجب، لا كالكلامِ المنثور، والكلامُ المنثور المبتدأُ على ذلك أحسنُ وأوقعُ من المنثور الذي تحوّل من موزون الشعر(...) وقد نُقِلَتْ كتبُ الهند، وتُرجمتْ حكم اليونانيّة، وحُوِّلت آدابُ الفرس، فبعضها ازدادَ حُسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً، ولو حوّلت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجزُ الذي هو الوزن، مع أنَّهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكرْه العجم في كتبهم، التي وضعت لمعاشهم وفِطَنهم وحِكمَهم، وقد نُقِلَتْ هذه الكتبُ من أمَّةٍ إلى أمّة، ومن قَرن إلى قرن، ومِن لسانٍ إلى لسان، حتى انتهت إلينا، وكنَّا آخرَ مَنْ ورِثها ونظَر فيها". (23) 

"نقل"، اللفظة التي تفيد "التغيير" و"التحويل"، هي ذاتها اللفظة التي ترتهن إلى الأمانة في الترجمة وتنآى بنفسها عن الخيانة. إنها ذات اللفظة التي تفيد "نَسْخَ" نص كما هو في لغته الأصل و"لصقه" في اللغة الهدف. فهي أقرب إلى مفهوم "الترجمة الحرفية". أي أن لفظة "نقل" تتضمن في الوقت ذاته "الفعل" و"المنهج" الترجميين: فعل الترجمة لكن من خلال مقاربة محددة، "المقاربة الحرفية". لكن لفظة "نقل" (Transférer/Transfert)، كمصطلح مميز للفعل الترجمي "ككل" في العصر العباسي، أشمل بكثير من لفظة "نقل" (Copier/Copie)، اللفظة الدالة على المنهج المتحفظ الحريص على الأمانة في الترجمة في الفعل الترجمي، وأعم من لفظة "نقل" (Transposer/Transposition)، الدالة على "التقنية الترجمية" المتخصصة في "إعادة صياغة" الجمل والتراكيب لملاءمتها للسياق المطلوب.

بالمختصر المفيد، مع الدولة العباسية، توسع نطاق الترجمة إلى أبعد مداه. إذ لم تكن مهمة المترجمين مشروطة بالانتهاء من ترجمة الكتب الموكلة إليهم بل مشروطة بتغيير الكثير من الأمور في حياة العرب وفي وضعهم بين أمم الأرض. ذلك أن الترجمة لم تكن مجرد "نقل"، كما كان يروج لذلك خصوم العرب مستغلين الدلالة السطحية للفظة "نقل"، بل كانت الترجمة ثورة في الحياة العربية بما في ذلك ثورة لغوية أغنت اللغة العربية وفتحتها على اللغات الأخرى فنهلت منها وارتوت من خلال القروض اللغوية والنحت وغير ذلك كما أغنت الحضارة العربية بشكل عام من خلال ضخ علوم جديدة ومعارف جديدة وفنون جديدة في شرايين الحياة العربية فانبعثت العلوم والمعارف والفنون في بيئة أرقى وانبعث العربي في جُبّة أجَدّ.

 

3.4.1.  فيما بين "نقل" و"ترجم": 

الجدير بالذكر أن "نقل" و"ترجم" كانتا لفظتين "متجاورتين"، في العصر العباسي الأول، ولكنهما لم تكونا "مترادفتين" لغويا. فبينما كانت اللفظة الأولى، "نقل"، تحيل على الترجمة التحريرية التي يمتهنها "ناقل" والجمع "نقلة"، كانت اللفظة الثانية، "ترجم"، تحيل على الترجمة الفورية التي يمارسها "ترجمان" والجمع "تراجمة". كان هذا تحولا "نوعيا" في حركة الترجمة في العصر العباسي التي انتزعت الريادة التاريخية في مجال الترجمة مرتين: المرة الأولى حين فصلت الترجمة التحريرية عن الترجمة الفورية فصكت اللفظة المميزة لكل صنف ترجمي، والمرة الثانية حين تأسست لأول مرة في تاريخ الترجمة مدرستان في الترجمة برغم أن الخطيب والمترجم الروماني تشيشرون كان أول من ميز بين الترجمتين ودقق في طبيعتهما، الترجمة الحرفية والترجمة الحرة. المدرسة العربية الأولى كانت مدرسة الترجمة الحرفية وكان عرّاباها يوحنا بن البطريق وابن ناعمة الحمصي. وأما المدرسة الثانية فكانت مدرسة الترجمة الحرة وكان عرابوها حنين بن إسحق وابنه، إسحق بن حنين بن إسحق، والجوهري.

في هذا السياق، كان أبو عثمان عمرو الجاحظ (159هـ - 255 هـ) يحترم الاختصاصيْن الترجميين، الترجمة الشفهية والترجمة التحريرية، بالتنصيص على اللفظة المناسبة للاختصاص المناسب حتى "يبدو" أحيانا أنه "يراوح" بين استعمال اللفظتين، "نقل" و"ترجم" كما في قوله: "والشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوّل تقطّع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجّب لا كالكلام المنثور". (24) فلفظة "ترجم" الواردة هنا تحيل على "الترجمة الشفهية" أو "الترجمة الفورية" بينما لفظة "نقل" تحيل على "الترجمة التحريرية" أو "الترجمة المكتوبة" لأن عبارة "ولا" تفيد وجود فكرتين أو واقعتين او حقيقتين منفصلتين ومتجاورتين في آن واحد. والقصد: "لا هذا ولا ذاك". بالمختصر المفيد، استعمال لفظة "ترجم" في اللغة العربية إلى حدود الفترة العباسية، كانت تستعمل للترجمة الفورية بينما كانت تستعمل للدلالة على الترجمة التحريرية لفظة "نقل" "ينقل" "نقلا" فهو "ناقل".

 

4.4.1.  لفظة "ترجم" كمقابل ل"عَنْوَنَ" و"بَوّبَ": 

على عكس الجاحظ، كان ابن النديم (324هـ - 384هـ) أميل، في "الفهرست"، لاستخدام الفعل 'نقل' على حساب 'ترجم'. وكان أيضا أميل إلى استخدام لفظة 'نقلة' على حساب 'ترجمة' كما في "نقلة الهند والنبط(25) ولفظتي 'ناقل' للمفرد و'نقلة' للجمع على حساب 'مترجم' و'مترجمين' كما في "أسماء النقَلَة من اللغات إلى اللسان العربي". (26) والحقيقة أنه غير واضح ما إذا كان الأمر يتعلق بتفضيل ابن النديم ومثقفي عصره للفظة "نقل" على حساب "ترجم" أم أن الأمر من أساسه كان يتعلق باستخدام "حصري" للفظة "نقل" في سياقات النقل والتحويل والترجمة بينما كانت تستعمل لفظتي "ترجم" و"ترجمة" في سياقات مغايرة للاستعمال المتعارف عليه اليوم كما نقرأ في "فهرست" ابن النديم "كتاب تَرْجَمَتُه..."، (27) أي "كتاب عُنْوانه...". وهو ذات الدلالة التي سترافق الإصدارات العربية حتى سقوط الدولة العباسية. ففي حاشية له على كتاب "ترجمان التراجم على أبواب صحيح البخاري"، حدد محقق الكتاب قصد أبي عبد الله السبتي الفهري (المتوفى سنة 731هـ) من لفظة "ترجمة"، موضوع الكتاب، الواردة في العنوان بصيغة الجمع (تراجم)، كونها (أي، الترجمة) "وضع عنوان يبين معنى الحديث النبوي الشريف الوارد في الباب أو يوجه معناه. وقد تسمى الترجمة بابا". (28) أي، أن لفظة "ترجمة" كانت تفيد "عنوان الكتاب" أو "بابا من الكتاب".

 

5.4.1. فيما بين "السيرة" و"الترجمة":

مع تقدم الزمن في فترة دولة الخلافة الإسلامية، بقيت "السيرة" لفظا هي ذاتها وظلت القيم المجاهد في سبيلها ثابتة ولكنها اكتست طابعا دينيا قدسيا فانتقلت من مجال "الأدب" و"الفن" إلى مجال "الفقه" الديني، "فقه السيرة". وبالمثل، تغير مفهوم البطولة في "السيرة" حيث انتقلت البطولة من "الأبطال الدنيويين المخلدين في الذاكرة" إلى "الأبطال الدينيين المبشرين بالجنة". وبهذه الطريقة، صارت السيرة "لصيقة" بآل البيت وبالخلفاء الراشدين وبالصحابة وبأولياء الله الصالحين. فكانت "السيرة النبوية" لابن هشام (المتوفي سنة 218) وكانت "سير" الخلفاء الراشدين واحدا واحدا: "سيرة أبي بكر الصديق" و"سيرة عمر بن الخطاب" و"سيرة عثمان بن عفان" و"سيرة الإمام علي بن أبي طالب"... وقد سار على هذا النهج في العصر الحاضر الشيخ متولي الشعراوي الذي جمع آل البيت كلهم في سيرة واحدة، "سيرة أل بيت النبي".

أما "باقي" الرجال والنساء من الفاعلين في المجالات غير الدينية فقد خصصت لهم "التراجم" المختصرة دون "السير" البطولية المطولة، سواء كان هؤلاء الباقون مفسرين أو رواة حديث أو مقرئين أو حتى فاتحين وملوك وأباطرة. هكذا، نجد ابن إسحاق (المتوفى سنة 151 هـ) يؤلف، من جهة أولى، سيرة نبوية عنوانها "كتاب السير والمغازي"؛ ومن جهة ثانية، يؤلف ذات المؤرخ والنسابة كتابا خاصا بالتدقيق في أنساب رواة الحديث وأصولهم عنوانه "تراجم رجال". وبنفس هاجس التدقيق، كتب ابن كثير الدمشقي (701هـ-747هـ)، من جهة أولى، "السيرة النبوية" في ست مجلدات إلى جانب مؤلف ثان هو "فصول السيرة" في مجلدين لكنه، من الجهة الأخرى، لم يخصص لملك عربي كبير من عيار هارون الرشيد سوى "ترجمة" في "البداية والنهاية" إذ كتب: "وهذه ترجمته (وليس سيرته): هو هارون الرشيد أمير المؤمنين، ابن..." (29)

 

خاتمة وخلاصات:

ناقش هذا البحث موضوعا من المواضيع الأساسية في دراسة الترجمة. إذ تعرض بالدرس والتحليل ل"تاريخ لفظة 'ترجم' في السياق الثقافي العربي (من عصر ما قبل الإسلام إلى العصر العباسي)"، متعقبا تطور مصطلح "ترجم" من منظور تاريخي تحليلي من خلال النبش في الوثائق التاريخية. وقد خلص البحث إلى النتائج التالية:

·     قبل الإسلام، كانت الترجمة جزء من التواصل العام ولم يكن لها "اسم" يميزها كما لم يكن لها "فعل" يصفها، من جهة، ويُميزها، من جهة أخرى، عن غيرها من أشكال التواصل ك"الكتابة" و"قراءة" وغيرهما.

·     خلال الدعوة النبوية، كان النبي صلى الله عليه وسلم أول من استعمل الفعل "ترجم".

·     خلال الخلافة الراشدة، ساد الفعل "أبلغ" للدلالة على "ترْجم" نظرا لتماشي الفعل، "أبْلغ"، مع الرسالة الدينية للإسلام.

·     خلال الفترة الأموية، استُبدل الفعل "أبلغ" ب"فسّر" التي صارت رسميا تحيل على فعل الترجمة.

·     أما، في الفترة العباسية، فقد استُبدِل الفعل "فسّر" بفعلين منفصلين: "نقل" للترجمة الحرفية و"ترجم" للترجمة الحرة. 

ورغم يقيننا بأن هذا البحث، وإن كان من القلة القليلة من البحوث التي تناولت الموضوع المدروس، لم تتجاوز وظيفته التنبيه إلى حركة التاريخ الثقافي العربي (في شخص الترجمة) وأشكال تعيينه للأدوات الواصفة لتفكيره وتعبيره وهويته. وهي حركة تاريخية خفية تشتغل تحت صخب الشعور الجمعي لتحقيق غايات تتجاوز إدراك الأفراد خلال حياتهم. وهي، بالتالي، تلقي بظلالها على القادم من المشاريع والإرادات والمصالح الثقافية. لذلك، فالحلقات الخمس موضوع هذا البحث (قبل الإسلام وخلال الدعوة النبوية وفي زمن الخلافة الراشدة وفي عصر الأمويين وانتهاء بالفترة العباسية) لم تكن حلقات منفصلة أو حلقات ذاتية التشغيل بل كانت أدوات في يد حركية التاريخ الثقافي العربي هدفها تأطير الفعل الثقافي عموما وتوجيه الفعل الترجمي على وجه الخصوص نحو الوجهة المرجوة. وفي البحث القادم، "تاريخ لفظة 'ترجم' في السياق الثقافي العربي (القرن التاسع عشر والقرن العشرون)"، إثبات لصدق هذه الفرضية.


الهوامش:

1- المفضل الضبي، المفضليات، (الباب التاسع، القصيدة رقم 125)، ص. 418.

2- محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري، الجامع الصحيح، تحقيق محمد ز ير بهن ناصر الناصر، شرح وتعليق مصطفى ديب البغا، الطبعة الأولى، الجزء الرابع، (دمشق: دار طوق النجاة، 1422ه)، ص. 184.

3- اليعقوبي (أو: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح)، تاريخ اليعقوبي، تحقيق عبد الحميد مهنا، الطبعة الأولى، الجزء الأول، (بيروت: شركة الأعلمي للمطبوعات، 2010)، ص. 271.

4- الحافظ بن كثير، البداية والنهاية، الجزء الثاني، (بيروت: مكتبة المعارف، 1990)، ص. 296.

5- البخاري، الجامع الصحيح، مرجع مذكور، ص. 38-39.

6- منصور علي ناصف، التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، الجزء الثالث، (بيروت: دار الجيل للنشر والطباعة والتوزيع، دون تاريخ)، ص. 249.

7- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، الطبعة الأولى، الجزء الثالث، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1879)، ص. 218: قال أبو بكر في اجتماع السقيفة: "نحن رهط النبي وقومه أفضل العرب نسبا وحسبا ودارا وأن العرب لا تسمع وتطيع إلا لهذا الحي من قريش".

8- ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، تحقيق الشيري، الطبعة الأولى، الجزء الأول، (إيران: 1413)، ص. 25: قال عمر بن الخطاب، في معرض رده على المطالبين بالخلافة من الأنصار: (هَيْهَاتَ لاَ يَجْتَمِعُ سَيْفَانِ فِيغِمْدٍ وَاحِدٍ، وَإنَّهُ وَاللَهِ لا يَرْضَيالعَرَبُ أَنْ نُؤَمِّرَكُمُ وَنَبِيُّهَا مِنْ غَيْرِكُمْ؛ وَلَكِنَّ العَرَبَ لاَ يَنْبَغِيأَنْ تُوَلِّي هَذَا الاَمْرَ إلاَّ مَنْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ فِيهِمْ وَأُولُوا الاَمْرِ مِنْهُمْ. وإن لَنَا بِذَلِكَ علی مَنْ خَالَفَنَا مِنَ العَرَبِ الحُجَّةُ الظَّاهِرَةُ وَالسُّلْطَانُ المُبِينُ. مَنْ يُنَازِعُنَا سُلْطَانَ مُحَمَّدٍ وَمِيرَاثَهُ ـوَنَحْنُ أَوْلِيَاؤُهُ وَعَشِيرَتُهُـ إلاَّ مُدْلٍ بِبَاطِلٍ، أَوْ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ، أَوْ مُتَوَرِّطٍ فِيهَلَكَةٍ!)

9- كمال الدين الدميري، حياة الحيوان، (القاهرة: المطبعة الأميرية، المجلد 1، 1274 ه).

10- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، مرجع مذكور، ص. 524.

11- ابن منظور، مرجع مذكور، ص. 1601-1603.

12- ساويرس بن المقفع، كتاب سير الآباء والبطاركة، (طبعة باريس، الجزء 1، 1904)، ص. 143.

13- ابن جلجل، طبقات الأطباء الحكماء، تحقيق فؤاد سيد، الطبعة الثانية، (مؤسسة الرسالة، 1985)، ص. 61-62.

14- ابن العبري (أو: غريغوريوس أبو الفرج بن أهرون)، تاريخ مختصر الدول، تحقيق أنطون صالحاني اليسوعي. الطبعة الثانية، (لبنان: دار الرائد اللبناني، 1994)، ص. 192.

15- عبد الحميد عبد المنعم مذكور، بواكير حركة الترجمة في الإسلام، الطبعة الأولى، (القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 2009)، ص. 80.

16 - ابن منظور، لسان العرب. المجلد الخامس. الطبعة السادسة. (بيروت: دار صادر، 2008)، ص. 180

17- ابن جلجل، مرجع مذكور، ص. 61.

18 - أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، بعناية محمد أفندي ساسي المغربي، الجزء السادس عشر، مطبعة التقدم، ص.85-86.

19- ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، نشرة نزار رضا، (بيروت: دون تاريخ)، ص. 270-271.

20 - الجاحظ، رسائل الجاحظ، جمعها ونشرها حسن السندوبي، الطبعة الأولى، (المطبعة الرحمانية، 1933)، ص.93.

21- عبد الحميد عبد المنعم مذكور، مرجع مذكور، ص. 79-96.

22- ديميتري غوتاس، الفكر اليوناني والثقافة العربية (حركة الترجمة اليونانية-العربية في والمجتمع العباسي المبكر: القرن الثاني-القرن الرابع ه/القرن الثامن-القرن العاشر م)، ترجمة نقولا زيادة، الطبعة الأولى، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2003).

23- أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ، الحيوان، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، الطبعة الثانية، الجزء الأول، (بيروت: دار الجيل للطباعة والنشر والتوزيع، 1965)، ص. 74-75.

24 - الجاحظ، مرجع مذكور، ص. 75.

25- ابن النديم (أو أبو الفرج محمد بن إسحاق بن محمد بن إسحاق الوراق البغدادي)، الفهرست، (إيران: طبعة تجدد، دون تاريخ)، ص. 180.

26- المرجع نفسه، ص. 179.

27- المرجع نفسه، ص. 180.

28- أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد السبتي الفهري، ترجمان التراجم على أبواب صحيح البخاري، جمع ودراسة وتحقيق محمد بن زين العابدين رستم، الطبعة الأولى، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2008ـ)، ص. 7.

29- الحافظ بن كثير، البداية والنهاية، الجزء الرابع عشر، (بيروت: مكتبة المعارف، 1990)، ص. 28.


هذه الدراسة منشورة على المجلة العربية للعلوم الإنسانية الصادرة عن جامعة الكويت، 42/165 (2024) على الصفحات 93-118. انقر هنا لقراءة الدراسة في المرجع الأصل

البيت الافتراضي للكاتب المغربي محمد سعيد الريحاني
بواسطة : البيت الافتراضي للكاتب المغربي محمد سعيد الريحاني
محمد سعيد الريحاني كاتب مغربي، عضو اتحاد كتاب المغرب، حاصل على شهادة الدكتوراه في الترجمة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة/المغرب، 2023، وعلى شهادة الماستر (ماجستير) في الكتابة الإبداعية من كلية الفنون الجميلة بجامعة لانكستر بإنجلترا، 2017.، وعلى شهادة الماستر (ماجستير) في الترجمة والتواصل والصحافة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة/المغرب، 2015.وعلى شهادة الإجازة (ليسانس، باكلوريوس) في الأدب الإنجليزي من جامعة عبد الملك السعدي، تطوان/المغرب سنة 1991.
تعليقات