مقدمة:
هذا البحث، "تاريخ
لفظة "ترجم" في السياق الثقافي العربي (في القرنين التاسع عشر والعشرين)"،
تتمة للمغامرة التي بدأت مع البحث الأول، "تاريخ لفظة "ترجم" في
السياق الثقافي العربي (من عصر ما قبل الإسلام إلى العصر العباسي)"،
والذي كان محركه الأول الوعي بالشّح غير المبرّر الذي يعرفه تاريخ الترجمة في
الثقافة العربية من حيث التأريخ لتطور لفظة "ترجم" في السياق الثقافي
واللغوي العربي. وتفعيلا لغيرة الباحث العربي في مجال دراسات الترجمة واستجابة
لنداءات صوت الذات الثقافية العربية العميقة، تحملنا مغامرة الخطوة الأولى في
اتجاه إنارة طريق البحث العلمي في هذا المجال فتفرغ البحث الأول إلى
البدايات الأولى في الزمن العربي للاستعمال لفظة "ترجم" ومكافئاتها بدءا من عصر ما
قبل الإسلام ومرورا بزمن الدعوة النبوية وفترة الخلافة الراشدة ووصولا بالعصر الأموي فالعصر
العباسي.
وأهم النقاط
الواردة في البحث السابق: الترجمة قبل
الإسلام كانت في الغالب، ترجمة شفهية ناقلة لنص شفهي. وهي، بذلك، لم
تكن مجرد ترجمة بل كانت جزءا من التواصل الجاري بين
المتحدثين. وهذا ما حرم الترجمة في فترة الإسلام من أفعال دالة على الترجمة
أو حتى الاعتراف للترجمة باستقلاليتها من خلال اسم يميزها عن باقي أشكال التواصل.
وحدها لفظة "ترجمان" كانت معروفة في وسط الترجمة الفورية في زمن
ما قبل الإسلام، وربما يعود ذلك لاحتراف البعض مهنة الترجمة الفورية في أماكن
بعينها في شبه الجزيرة العربية. ونفس المصير لقيته الترجمة التحريرية التي
اعتبرت إما "قراءة" (ترجمة نص مكتوب بلغة أجنبية ترجمة فورية
شفهية) أو "كتابة" (ترجمة نص مكتوب إلى نص مكتوب بلغة ثانية).
في زمن النبوة، ظهر، لأول مرة وفي أول وثيقة
محفوظة، استعمال النبي ﷺ لأول فعل دال على الترجمة،
فعل "ترجم"، كما فعّلَ الصحابي سلمان الفارسي –رضي الله عنه- التوجه النبوي
الجديد وكان أول من ترجم البسملة من اللغة العربية إلى اللغة الفارسية.
وبذلك، حافظت "الترجمة" على وجودها كـ"ترجمة فورية"
ولكنها، على الجهة الأخرى، انفتحت على وظيفة جديدة للفعل النبوي وهي ترجمة
النص من مستوى لغوي إلى مستوى لغوي آخر "داخل نفس
اللغة" Intralinguistic
Translation فيما صار
يعرف ب"التفسير"، تفسير القرآن الكريم. وقد عرف ابن عباس،
كبير المفسرين في الإسلام، بـ"ترجمان القرآن".
وفي زمن الخلفاء الراشدين، استعملت لفظة "أبلغ" محل لفظة "ترجم"
التي استعملها النبي في حياته. وقد صارت اللفظة، "أبلغ"، تفيد
نقل الكلام من لغة الأعجمي إلى لغة العربي والعكس، وذلك لتسهيل عملية التواصل
وتسريعها. لقد كانت الفترة الراشدية فترة "تبليغ" الرسالة
المحمدية. ولذلك، انعكست مهمتهم التاريخية على معجمهم اللغوي.
ففعل "أبلغ"، من جهة، يتضمن "تملكا للحقيقة"،
ومن جهة أخرى، يفيد "إيصال الأمانة" و"الإخطار بمضمون ما"
والإخبار "على أكمل وجه". فهو الفعل الذي
يفيد "نقل مضمون النص دون خيانة أو تقصير". إنه "تبليغ" لرسالة التوحيد وتتبع
درجة الوفاء في وصولها سالمة. وربما، لهذه الأسباب مجتمعة، هيْمن
الفعلان "بلّغ" و"أَبْلَغَ" على العملية
التواصلية عموما وعلى فعل الترجمة خصوصا في هذه الفترة بين العرب وغير العرب من
جهة وبين المسلمين وغير المسلمين من جهة ثانية.
وفي العصر الأموي، عاد خلفاء بني أمية إلى سياسة التعريب
التي سنها قبلهم عمر بن الخطاب فعربوا الدواوين والعملة ولم يعد هناك جدوى للترجمة
الفورية فأُهْمِلَ اللفظ "ترجم". لكن، على الجهة الأخرى، ومع
اتساع رقعة دولة الإسلام وتوفر فرصة مقارنة الذات بالآخر، انتبه العرب، وهم حملة
مشعل دين التوحيد، للهوة الكبيرة التي تفصلهم عن العلوم الدنيوية. ويشهد التاريخ
بأن حفيد معاوية بن أبي سفيان، خالد، حين اعتزل الحكم والسياسة، تفرغ لقراءة
العلوم من كيمياء وفلك وطب ولكن ليس قبل ترجمتها من لغات العالم القديم.
وبذلك، كان أول من دعم الترجمة والمترجمين في التاريخ العربي. كما كان، في زمنه،
نحت لفظة مميزة لـ"الترجمة التحريرية" تجمع المجال الترجمي
بالمجال الديني وهي لفظة "فسّر"، "تفسيرا".
ولأن لفظة "تفسير" تسوّي بين التحويل اللغوي
للنصوص وبين كشف المعاني العميقة للنص المقدس وتجلية الحقائق الباطنة فيه،
فقد اعتمدها العرب في زمن الدولة الأموية لفظة رسمية للدلالة على فعل
الترجمة.
أما الفترة العباسية، فقد عرفت فترتين زمنيتين متقاربتين من حيث
الاهتمام بالترجمة ولكن متباينتين من حيث الأداء والنتائج. الفترة الأولى
بدأت مع أبي جعفر المنصور، ثاني الخلفاء العباسيين، وبصم عليها مترجمون عرب كبار
من طينة المخضرم عبد الله بن المقفع الذي عاصر الأمويين والعباسيين معا ويحيى بن
البطريق وجورجيس بن جبريل الطبيب. أما الفترة الثانية، فبدأت مع
الخليفة العباسي السابع، المأمون بن هارون الرشيد، الذي دفع بمؤسسة "بيت
الحكمة" التي أسسها والده إلى أقصى مداها في الترجمة والعطاء الثقافي.
ومن أشهر المترجمين في هذه المرحلة يوحنا بن البطريق، وعبد المسيح بن ناعمة الحمصي،
ومتى بن يونس، ويحيى بن عدي، وسنان بن ثابت، وحنين بن إسحق. وفي هذه الفترة، بدأت
تتبلور أولى إرهاصات المنهج الترجمي إذ اعتمد يوحنا بن البطريق وابن ناعمة المصري المنهج
الحرفي، بينما اعتمد حنين بن إسحق والجوهري المنهج الحر في
الترجمة. وبموازاة مع نضج الوعي بالمنهج، نضج الوعي بالمصطلح، فكان للترجمة التحريرية
لفظة خاصة تميزها عن غيرها من أنواع الترجمة، وهي لفظة "نقل"،
كما كان للترجمة الفورية لفظة خاصة تحيل عليها وتحددها بين باقي الترجمات، هي
لفظة "ترجم".
بعد هذا الجرد التذكيري بما ورد في البحث السابق، سنتوقف
في هذا البحث، "تاريخ لفظة "ترجم" في السياق الثقافي العربي (في
القرنين التاسع عشر والعشرين)"، بالتفصيل بين قرْنين هامّين من بين قرون
أزمنة الترجمة العربية: القرن التاسع عشر والقرن العشرون.
1. لفظة "ترجم" في القرن
التاسع عشر:
1.1. لفظة "عَرّبَ" كفعل رسمي في القرن التاسع عشر:
بعد صدمة الحداثة التي ولدتها الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابوليون بونابارت الأول Napoléon Bonaparte، استعجل محمد علي باشا اللحاق بالركب الأوروبي. وفي زمن قياسي، كان له ما أراد وأصبح عصره أحد أهم عصور الترجمة في تاريخ الثقافة العربية، بعد عصر الخليفة العباسي المأمون، لعدة أسباب. أولها، كون عصره كان نهضة ثقافية شاملة بعد ركود حضاري دام لقرون عديدة. ثانيها، كونه اعتمد الترجمة أساسا للنهضة إذ ركزت الترجمة، في عصره، على كل ما هو عملي نفعي، وأهملت ترجمة الفنون والآداب وغيرها، سيرا وراء التقليد الذي ترسخ مع الأمويين والعباسيين في العصر الذهبي للترجمة العربية. ثالثها، كون محمد علي باشا لم يعتمد مترجمين تجارا يبيعون خدماتهم لمن يدفع لهم، وإنما اعتمد مترجمين مؤمنين بالمشروع الحضاري العام، مترجمين مناضلين وطنيين غيورين على نهضة بلدهم. رابعها، كون المترجمين المصريين تكوّنوا في البلد المستهدف (إيطاليا وفرنسا وإنجلترا) ضمن بعثات طلابية منظمة ومنتظمة. خامسها، كون الترجمات المنجزة في عصره كانت كلها "ترجمات مباشرة" أغلبها كان من الفرنسية الى العربية، وبعضها الآخر كان من الإيطالية والإنجليزية. وسادسها، كون الوعي بالمنهج في الترجمة في زمن محمد علي باشا قد وصل حد "تحيين" المصطلح العربي المميز لفعل الترجمة، فصار "التعريب" مصطلحا مميزا للفعل الترجمي ذي النفس "البياني" المعروف في الإبداع العربي منذ بداياته في الزمن. أما لفظة "نقل" العباسية فاختفت من التداول اللغوي واستبدلت بـ"الترجمة".
ويرجع اعتماد لفظة "تعريب" إلى لثلاثة أسباب واضحة. أولها، أن ترجمة الأعمال
الفرنسية إلى اللغة العربية عدّت بمثابة نقل "للملكية" أو نقل
"للممتلكات" الرمزية من فرنسا إلى مصر، مع ما يوازي ذلك من تعميم للمعارف والعلوم المعربة
في البلاد المذكورة. وثانيها، أن وعي محمد علي باشا ورجالاته ومناضليه من المترجمين بضرورة اللحاق بالركب الغربي واختيار الترجمة كسبيل
لاختصار المسافة بين الواقع العربي والنموذج الغربي كما كان في القرن التاسع عشر
ولّد ضرورة التدقيق في مفهوم هذه الأداة الحضارية، "الترجمة"، وضرورة
تحديد طرق اشتغالها، وبالتالي ضرورة نحْت مصطلح يحيل عليها. هذه الضرورات الثلاث والتي يمكن
إجمالها في ضرورة الوعي بالمنهج، كانت وراء استبدال اللفظة العباسية القديمة، "نقل"، بلفظتين
اثنتين: فقد صار "النقل الحرفي"، كما اشتغل به عبد المسيح
بن عبد اللّه الحمصي الناعمي ويوحنا بن البطريق في العصر العباسي، يعرف ك"ترجمة"
في القرن التاسع عشر. أما "النقل الحر"، كما اشتغل به حنين بن
إسحاق العبادي الحيري، والعباس بن سعيد الجوهري قبل عشرة قرون، فقد أصبح يعرف بـــ"تعريب" في زمن
محمد علي باشا، في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
فلفظة "تعريب"، في القرن التاسع عشر، كانت تحيل على فعل
"الترجمة" ولكن بفلسفة أسلوبية عربية أصيلة تخضع لقواعد التأليف
العربية الأصيلة من بيان وبلاغة ومحسنات لفظية وغيرها. فقد كان سليمان خطار
البستاني يعتبر نفسه "مُعَرّبا" ويعتبر ملحمة "الإلياذة"
التي ترجمها رأسا من اللغة الإغريقية القديمة إلى اللغة العربية الحديثة ملحمة
"معربة" لأنه ترجمها شعرا موزونا حتى ليخالها القارئ عربية الأصل
لحسن النظم والوزن واللغة والأسلوب. أما المترجمون الذين اختاروا نهج الحرص على
الوفاء للنص الذي يصل حد "الترجمة الحرفية"، فقد اعْتُبِرُوا
"مُتَرجمين"، بمعيار الثقافة العربية في القرن التاسع عشر.
وبذلك، يمكن الاستنتاج بأن مصطلح "تعريب" في القرن التاسع عشر
كان أقرب للدلالة على "الترجمة الحرة (جدا)"، أي الترجمة
التحريرية الحرة المعتمدة على الأسلوب العربي القديم المتميز بالمحسنات اللفظية،
بينما كان مصطلح "ترجمة" أقرب إلى "الترجمة الحرفية"
التي لا تحتاج إلى محسنات بيانية وبلاغية. وفي القرن العشرين، حين سيتم التخلي
نهائيا عن الأسلوب العربي القديم في الترجمة، ستسقط لفظة "تعريب"
تلقائيا من التداول وستستبدل بكل بساطة بلفظة "ترجمة".
ولتوضيح الأمر، يمكن الاستشهاد بالمؤرخين خلال نبشهم في الفترة التاريخية
التي يتخصصون فيها. ففي كتابه "عصر محمد علي"، يستعمل عبد
الرحمان الرافعي بانضباط كبير لفظتي "عرّب" و"ترجم"
خلال تقديم سير رجالات الترجمة والتعريب في النصف الأول من القرن التاسع عشر ممن
شكلوا بعثات محمد علي الطلابية المصرية إلى فرنسا على دفعات. ولفظتا "ترجم"
و"عرّب" هما لفظتان مختلفتان قصد من خلالهما المؤرخ عبد الرحمان
الرافعي التدقيق والتمييز بين فعلين ترجميين سادا في القرن التاسع عشر: الترجمة
الحرفية والترجمة الحرة. فسمى الأولى "ترجمة" والثانية
"تعريبا"، سيرا وراء التقليد السائد في العرف الترجمي العربي منذ
العصر العباسي في القرون الوسطى حتى زمن محمد علي باشا في القرن العشرين. فبينما
كان "المُعرّب ينشغل بالأسلوب البياني ويهتم بتأصيل أسلوب النص
المترجم مع الوفاء لمضمون النص وحده وفاءً لا تشوبه شائبة، كان "المترجم"
ينقل ذات النص الأجنبي إلى اللغة العربية لكن مع الوفاء للمضمون والأسلوب
الأصليين في النص الأجنبي الأصلي حتى بدا الأمر أقرب إلى مفهوم لورنس فينوتي Lawrence Venuti المزدوج عن الترجمة: "ترجمة
التأصيل" أو "ترجمة التوطين" Domestication ونقيضها "ترجمة
التغريب" Foregnisation.
ففي الفصل المخصص لسيرة رفاعة الطهطاوي، يعتبر عبد الرحمان الرافعي هذا
الرجل "مُعرّبا"، متحاشيا استعمال الألفاظ الدالة على فعل
الترجمة. فقد عرّب رفاعة الطهطاوي وهو في باريس كتاب "قلائد
المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر" طبع بمطبعة بولاق سنة 1833 بعد
عودة الطهطاوي من فرنسا، أخذ وهو في فرنسا يعرب كتاب المسيو ملتبرون في
الجغرافيا، فعرب الجزء الأول منه بعنوان "الجغرافية العمومية"
ثم عرب في مصر جزءا آخر، وكتاب "التعريبات الشاقة لمريد الجغرافية"
وهو كتاب ضخم عرّبه عن عدة كتب فرنسية، وأضاف إليه إيضاحات واسعة، ويتناول
جغرافية مصر وسائر بلدان العالم، وقد عرضه على محمد علي فأمر بطبعه ونشره لتعميم
نفعه وطبع ببولاق سنة 1838. وله في الرياضيات والطبيعيات كتاب
"مبادئ الهندسة" عرّبه لإي إيم لوجندر وطبع سنة 1843،
وكتاب "تعريب المعلم فرادر" في المعادن النافعة
لتدبير المعايش طبع سنة 1873، وعرب وهو بالخرطوم كتاب "مواقع
الأفلاك في وقائع تليماك"، وظهر له سنة 1866 تعريب "القانون
المدني الفرنساوي"، وعرّب "قانون التجارة الفرنسي" وظهر
له سنة 1868...
(1)
ويبدو واضحا من عناوين مترجمات رفاعة الطهطاوي الأسلوب العربي المسجع الوفي
للتقاليد الأسلوبية العربية الأصيلة في التعبير المكتوب. وثمة "معربون"
آخرون جايلوا رفاعة الطهطاوي ونحوا نحوه كأحمد الرشيدي الذي عرب كتاب "ضياء
النيرين في مداواة العينين" للإنجليزي ويليام لورانس سنة 1840 وعنوانه
الإنجليزي الأصلي بدون سجع عربي هو "A Treatise on the Diseases of the Eye"،
ومحمد الشباسي بك الذي عرب كتاب "التنقيح الوحيد في التشريح الخاص
الجديد" للفرنسي جون كروفييهJean Cruveilhier وعنوانه
الفرنسي الأصلي دون محسنات لفظية عربية هو "Anatomie pathologique
du corps humain"، ومحمد الشافعي بك الذي عرب
"الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال" للفرنسي كلوت بك سنة
1844، وأحمد بك ندا الذي عرب كتابي
"البراعة في علم الزراعة" للفرنسي فيجري بك سنة 1866، و"الحجج
البينات في علم الحيوانات" سنة 1867... (2) ولقد كان معظم هؤلاء المترجمين مسلمين
بالديانة والثقافة. وهو ما يستحق الوقوف عليه لأهميته في المعركة الفاصلة التي
ستحدث في القرن التاسع عشر بين المدرسة المصرية التي كانت آنئذ واجهَتُها الطهطاوي
والمدرسة اللبنانية التي كانت واجهَتُها البستاني.
2.1. معارك "التعريب" و"الترجمة"، معارك الأسلمة والعلمنة:
1.2.1. الترجمة في القرن التاسع عشر
كواجهة لمعارك غير معلنة:
بعد الصدمة التي خلفتها الحملة النابوليونية على
مصر وبلاد المشرق العربي، تولدت لدى النخب السياسية والثقافية في المنطقة إرادة
إنهاء الانعزال الثقافي، إرادة انطلاقة جديدة، إرادة تجديد الصلة مع الآداب
والثقافات العالمية بعد قرون من العلاقات الضئيلة الأثر. (3) ويجمع المؤرخون على اعتبار النصف الأول من القرن
التاسع عشر فترة انفتاح ثقافي اطلع خلالها المجتمع العربي –أو طلائعه المثقفة-
لأول مرة على بعض معالم الحضارة الغربية الحديثة. ولا شك أن إحدى ظواهر هذا
الانفتاح أو التأثر هي ظهور "حركة الترجمة" من اللغات الأوروبية
التي بدأت من الفرنسية والإيطالية، وبعد ذلك من الإنجليزية وغيرها. ولظروف
تاريخية، فقد اتجهت جهود أوائل المترجمين أساسا إلى ترجمة مواد غير أدبية من تاريخ
وعلوم طبيعية أو حربية إلخ. وبعد ذلك، وفي القرن التاسع عشر نفسه، نلمس اهتماما
متزايدا بالأدب الأوروبي، تعقبه جهود رائدة لترجمة مؤلفات أدبية منه إلى العربية.
وهكذا ففي نهايات القرن التاسع عشر أصبحت الترجمة الأدبية إلى اللغة العربية ظاهرة
مألوفة. ويعود ذلك، إلى حد ما، إلى ظهور الصحافة اليومية والمجلات الأدبية
والترفيهية التي نشط أصحابها في نشر مسلسلات القصص المترجمة اجتذابا للقراء. (4)
فمنذ منتصف القرن التاسع عشر ظهر في مصر ولبنان
مترجمون ضالعون في اللغات الأوروبية وآدابها، وانبروا يترجمون آثارا أدبية لم يعهد
القارئ العربي مثلها سابقا. فقد تكوّن المصريون منهم من خلال بعثات طلابية إلى
أوروبا بينما تخرج اللبنانيون منهم من الجامعتين البيروتيتين المعروفتين: الجامعة
الأمريكية وكلية القديس يوسف. كما كان الكثير من هؤلاء المترجمين يمارس الكتابة
الصحفية أو الكتابة الأدبية. والنتيجة، أن جمهور قراء ترجماتهم وإنتاجاتهم بدأ
يتزايد ويتعاظم في أوائل القرن العشرين في مصر وسوريا ولبنان وغيرها من البلاد
العربية. (5) فخلال القرن
التاسع عشر، هيمن أسلوبان متمايزان على الترجمة الأدبية العربية: الأسلوب الأول
نشأ وازدهر في مصر وَيُعْتبَرُ عرابه الأول رفاعة
رافع الطهطاوي وتلامذته وكانوا في غالبيتهم مسلمين بالديانة والثقافة؛ أما الأسلوب
الثاني فظهر وترعرع في لبنان وَيُعْتبَرُ بطرس البستاني عرابه الأول بمعية تلامذته
الذين كانوا في غالبيتهم مسيحيين بالديانة والثقافة. هذه الخلفية القطرية والدينية
والثقافية أثرت بشكل واضح على رغبات قطبي الترجمة، الطهطاوي والبستاني، وعلى
استراتيجيتهما الترجمية وعلى الأدوات التي اعتمداها وعلى المقاربة التي تبنياها وأخيرا
على الغايات الترجمية التي رسماها في الأفق.
2.2.1. فيما بين خندق رفاعة الطهطاوي
وخندق بطرس البستاني:
من جهة العطاء الثقافي، عُرفَ رفاعة رافع الطهطاوي
بترجماته العلمية والإدارية والعسكرية التي كانت تشرف عليها الدولة المصرية مباشرة
في النصف الأول من القرن التاسع عشر لكنه اشتهر، بالتوازي مع ذلك، بترجمته لرواية
تعليمية تعود للعقد الأخير من القرن السابع عشر للكاتب الفرنسي فينلون (Fenélon) هي
رواية Les aventures de Télémaque التي ترجمها
الطهطاوي ب"مواقع الأفلاك في وقائع تيليماك" خلال منفاه بالخرطوم
عام 1851. أما بطرس البستاني، فعرف بمعجمه "محيط المحيط"
الذي صُنفَ كأول معجم عربي حديث وبموسوعته "دائرة المعارف: قاموس عام لكل
فن ومطلب" التي اعتبرت الأولى من نوعها عربيا وأيضا بمشاركته في ترجمة
الكتاب المقدس من العبرية واليونانية إلى اللغة العربية بمعية ناصيف اليازجي
ومبشرين بروتستانت أمريكيين في محاولة لاستبعاد كل أثر قرآني على الترجمة الجديدة
من بيان وبديع ومحسنات لفظية لتأسيس مسافة مع الكتابة العربية التراثية ومع النصوص
الإسلامية المقدسة. لكن سمعته الرفيعة ترسخت مع اقتحامه مجال الترجمة الأدبية
بترجمته لرواية دانيال ديفو Daniel Defoe الموسومة بـ Robinson Crusoe عام 1835
، والتي اختار
لها العنوان التالي: "التحفة البستانية في الأسفار الكروزية".
والسجع البادي في هذا العنوان هو الوحيد في كل النسخة العربية المترجمة من الرواية
حيث نحا مترجمها، بطرس البستاني، إلى أسلوب جديد بعيد كل البعد عن التقاليد
الأسلوبية العربية الأصيلة المعروفة ب"الصنعة".
فيما يتعلق باختيار مواد الترجمة، بدأ رفاعة
الطهطاوي بالانضباط لقرارات الدولة المصرية في زمن محمد علي إذ تخصص في ترجمة ما
يخدم سياسة الدولة الرامية للإصلاح الشامل على الصعد الإدارية والتربوية والعسكرية
والتقنية فلم تتحرر اختياراته إلا بعد نفيه إلى الخرطوم، حيث ترجم كتابا أدبيا فرنسيا، Les aventures de Télémaque، ينوب عنه في نقد سياسة عباس
الأول الذي كان وراء هذا النفي. وهو نفس الطريق الذي سلكه قبله ابن المقفع حين
ترجمة كتاب الحكيم ديدبا، "كليلة ودمنة"، لنقد الخليفة العباسي
من خلال نص هندي. أما بطرس
البستاني، فقد بدأ مساره بالتأسيس اللغوي لعربية حديثة تواكب معجم العصر من
خلال معجم "محيط المحيط" ثم انتقل للتأسيس المعرفي لثقافة
عامة تصل المكتسب بالمستجد من خلال موسوعة "دائرة المعارف: قاموس عام لكل
فن ومطلب" قبل أن ينتقل للتأسيس لاستقلالية الترجمة عن الأسلوبية العربية
الأصيلة المميزة للنصوص الدينية الإسلامية على مدى أربعة عشر قرنا من الزمن.
أما من جهة الأسلوب، فكان رفاعة رافع الطهطاوي
ينتصر للأسلوب العربي الأصيل في الكتابة والتعبير من خلال ثلاث عناصر إيقاعية.
أولاها، الإيقاع المسجوع الذي عرف به الأدب العربي منذ القدم. وثانيها، التقابل
التناغمي الذي يقسم الجملة الواحدة إلى شطرين: يتضمن الشطر الأول من
الجملة المعنى الرئيس بينما يشتغل الشطر الثاني منها بطريقة المرآة فيعكس
المعنى الرئيس بألفاظ جديدة على أن يختمه مسجعا. وثالثها، مراكمة المترادفات
اللغوية جنبا إلى جنب دون نية التشديد أو التوكيد أو إظهار وظيفة لغوية
ما. وهذه العناصر اللغوية الثلاث وظيفتها
الزخرفة فحسب ولا تربطها علاقة من قريب أو بعيد بالنص الأصل، وغالبا ما لا تكون موجودة في
النص الأصل المترجم منه، كما هو واضح من خلال مقارنة النصوص التي ترجمها الطهطاوي
عند مقابلتها بالنصوص الأصلية في لغتها الأصلية:
فقرة من رواية فينلون كما ترجمها الطهطاوي |
Le texte original du roman
français |
فتعجبت كالبسه لما رأت هذا الشاب بمكان من العقل
والفصاحة، وحماسة المقال والسماحة. فلا زالت تطيل النظر وتحدق به البصر. ولزمت
الصمت برهة وأمسكت عن الكلام وتحيرت في أمر هذا الغلام. ثم قالت له يا تيليماك
سأخبرك بما وقع لأبيك وما صار. ولكن قصته طويلة لا تقبل الاختصار. (6) |
Calypso, étonnée et attendrie de voir dans une
si vive jeunesse tant de sagesse et d’éloquence. Ne pouvait rassasier ses
yeux en le regardant. Et elle demeurait en silence. Enfin,
elle lui dit : "Télémaque, nous vous apprendrons ce qui est arrivé
à votre père. Mais l’histoire en est longue". (7) |
أما بطرس البستاني، فقد اتخذ طريقا مغايرا عن الذي
سلكه رفاعة الطهطاوي. فقد كان البستاني أول ما فعله خلال انطلاقته الترجمية هو الاستغناء
عن العناصر الإيقاعية الثلاثة التي اعتمدتها الكتابة الكلاسيكية العربية في القرن
التاسع عشر من إيقاع مسجوع وتقابل متناغم وترادف لغوي. وبذلك، جاءت ترجمات بطرس
البستاني أبسط وأقل تكلفا. وقد نحى بطرس البستاني منحى مغايرا في تمرده على "التنميط"
Standardisation،
بحيث كان أول مُتَرْجم في تاريخ
الترجمة الأدبية العربية مايز بين اللغة الأدبية في السرد واللغة الدارجة
المستعملة في الحوار الأدبي. وهو المنحى الذي التقطه منه كبير الروائيين العرب مثل
نجيب محفوظ وغيره من الروائيين والقصاصين، ليوظفوه في نصوصهم الإبداعية
بعد ذلك. فرغم أن قراء القرن التاسع عشر استهجنوا هذا الأمر في حينه لكن كُتاب
القرن العشرين تكفلوا بمسؤولية تعميم هذه المهمة وتثبيتها وجعلها من صميم العملية
الإبداعية ذاتها، وليس فقط من صميم العملية الترجمية.
ولأن الرجلين، الطهطاوي والبستاني، هَرَمَان من
أهرامات الترجمة في القرن التاسع عشر، فقد شكلا مدرستين هامتين استقطبتا المترجمين
على مدى قرنين من الزمن. فبينما استقطبت مدرسة بطرس البستاني "مترجمين"
من طينة طانيوس عبده، وفرح أنطون، ونجيب حداد، وأدباء من طينة توفيق الحكيم، ويحيى حقي، ونجيب محفوظ، والأجيال الموالية، استقطبت
مدرسة الطهطاوي "معربين" من عيار محمد عثمان جلال عبد الله السيد، وصالح مجدي، ومحمد قدري وأدباء من طينة
مصطفى لطفي المنفلوطي، وطه حسين، وغيرهم، ولكن الغلبة اتضحت مع الزمن
أنها لمدرسة بطرس البستاني. وقد كانت نصرا على الواجهتين، الترجمية والأدبية. فقد
قدر للمدرسة الأولى، مدرسة الطهطاوي ومعها وصاية اللغة الأزهرية على كل المترجمات
والمنشورات الصادرة عن المطبعة الوحيدة في مصر آنئذ، والتي عرفت بمطبعة "بولاق"،
أن تضعف مع الزمن وتتلاشي، بينما تقوّت المدرسة الثانية، مدرسة بطرس
البستاني، وفرضت نفسها على القادم من الزمن، القرن العشرين وما بعده، ليس في لبنان
فحسب وإنما في العالم العربي بأكمله.
3.2.1. ما وراء حماسة النهضتين،
المصرية والشامية، في القرن التاسع عشر:
رغم انطلاقهما في فترتين زمنيتين متقاربتين
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنّ النهضتين اللبنانية والمصرية تختلفان
عن بعضهما بعضا من حيث نوعية الفاعلين أولا، ثم من حيث تحديد الهدف
ثانيا، وأخيرا من حيث الدعم الذي ينتدب نوعية محددة سلفا من
الفاعلين ويسند الهدف المرصود دون غيره. فمن حيث نوعية الفاعلين،
عرفت الأغلبية في مصر تفعيل دورها في الإقلاع الحضاري في عصر محمد على باشا
وما بعده بينما حدث العكس في الشام حيث نشطت الأقليات خارج دواليب الدولة
ونفوذها إذ ارتقت النخب الشامية وتبوأت مكانتها من خلال العمل في المجتمع السياسي
والمدني: "تزَعّم أفراد من هذه الأقليات النهضة الفكرية وشاركوا في الجمعيات
السياسية، وترأسوا بعض هذه الجمعيات، وبرزت أسماؤهم في عالم الفكر والأدب
والسياسة." (8)
أما من حيث الهدف، فقد ركزت النهضة في
مصر على خدمة الدولة وجعلته أولوية الأولويات من خلال ترجمة الكتب الغربية
التي تعنى بالطب والصناعة الحربية والتنظيم الإداري، بينما ركزت
النهضة في لبنان على هدف مغاير وهو صناعة مجتمع عربي جديد وتنمية ثقافة
عربية جديدة والدفع في أفق بلورة لغة عربية جديدة، وبذلك
توجهوا لتطهير اللغة العربية من الدين الإسلامي وخفض مستوى لغة التعبير المكتوب من
اللغة العربية الفصحى التي يستند إليها رجال الدين إلى اللغة الأقرب إلى
العامية التي يتعرف عليها بسهولة العامة من القراء العرب.
أما من حيث الدعم، ففي مصر، كان دعما
رسميا مباشرا من قبل الدولة المصرية التي تحدد الأهداف وتراقب درجة
تحقيقها وتقيمها، ولو أن هذا الدعم كان يتغير بتغير رأس
الدولة، كما حدث مع محمد علي باشا ثم بعده مع ابنه
الذي همش الترجمة والمترجمين. أما في لبنان، فقد كان الدعم مغايرا لأن
الّاهداف كانت مغايرة. فقد كان من يرسم الأهداف هي الدولة العميقة في
العالم (وليس في لبنان فقط) أما من كان يحرّك المناضلين العرب على الأرض
فالمستشرقون والجامعات الفرنسية والأمريكية والمحافل الماسونية في البلاد، فيما كان
يظهر في الصورة/الواجهة المفكرون العرب من أمثال بطرس البستاني وناصيف اليازجي
اللذين اشتغلا على جبهة الموسوعية والمعجمية والترجمة والأدب والصحافة والتربية
والتعليم وغيرها من الجبهات التي تتطلب نفسا طويلا وتغييرا ثقافيا وإصلاحا تدريجيا
وصبرا لا يعترف بالزمن.
والنتيجة كانت انتصار إرادة تطوير المجتمع
من خلال التغيير الثقافي (التي شكلها الشاميون) على إرادة تطوير
الدولة من خلال التغيير الإداري والتقني والعلمي (التي شكلها المصريون). وهذا
ما تجلى بوضوح في القرن العشرين من خلال ذيوع منهج بطرس البستاني في الكتابة
الأدبية والصحفية والترجمة وغيرها حتى صارت اليوم قاعدة في التأليف والتعبير
والترجمة.
2. لفظة "ترجم" في القرن العشرين:
1.2. خروج مفهوم
"التعريب" في القرن العشرين عن إجماع القرن السابق له:
لم يكن القرن العشرين قرن تحرر الشعوب المستعمرة
سياسيا واقتصاديا فحسب، وإنما كان أيضا قرن تحرر الثقافات والعلوم والمعارف
والفنون، فتناسلت وتعددت وتعقلنت. لذلك، لم يكن نشازا في
القرن العشرين تحرر لفظة "تعريب"، هي أيضا، من دلالات القرن
التاسع عشر لتصبح ثلاثية الدلالة. فمن جهة أولى، صارت لفظة "تعريب"Arabicisation لصيقة
بالسياسات اللغوية العربية بعد استرجاع هذه البلدان لاستقلالها السياسي، وبذلك صار يقابلها في
الثقافات الأخرى الطلْينة والألْمنة والأسْبنة والرّوْسَسَة والتتركة، إلخ. ومن جهة ثانية، ارتبطت لفظة "تعريب"
Terminologisation بمجهودات المجامع اللغوية العربية لضمان توازن اللغة العربية بين
اللغات الحية المتقدمة والمتجددة بحكم السيولة المصطلحية التي تتدفق عليها دون
توقف من مختبرات الطب والفيزياء والكيمياء وأوراش التكنولوجيا ومن مجالات الإعلام
والاقتصاد والفنون والآداب وغيرها. وهي، في مجملها، مجهودات لملء الفراغات اللغوية
في اللغة العربية من خلال إيجاد مقابلات لما جَدّ من مصطلحات أجنبية في كل مجال من
مجالات التواصل والعلوم والتقنية والإدارة والمال والأعمال وغيرها لضمان
التوازن اللغوي عند الترجمة أو البحث العلمي أو التدريس المتخصص كشرط لمواكبة
العصر. ومن جهة ثالثة وأخيرة، صارت لفظة "تعريب" Idiomatisation جزء من
عملية الترجمة وأداة من أدواتها شأنها في ذلك شأن باقي الأدوات الترجمية كـ"النحت"
Clipping و"الاشتقاق" Derivation و"التصرف"
Adaptation و"التأويل" Interpretation و"الاقتراض"
Borrowing و"التوليد" Breeding و"التكافؤ"
Equivalence و"التحويل" Modulation ...
وفي دلالات لفظة "تعريب"
الثلاث المذكورة آنفا، يبدو واضحا أن استعمال اللفظة في القرن العشرين قد خرج
بالكامل عن "إجماع" القرن التاسع عشر ومعجمه اللغوي في السياق
العربي. ففي القرن العشرين، انتقلت لفظة "تعريب" من يد
المترجم إلى يدين جديدتين: اليد الأولى هي يد السياسات الحكومية العربية الحديثة
العهد بالاستقلال السياسي، أما اليد الثانية فكانت يد المجامع
اللغوية العربية التي احتكرت سلطة المصطلحية والقاموسية. فبعد انتهاء الحرب
العالمية الثانية وانتزاع الدول العربية لاستقلالها اتباعا، صار "التعريب"
في الوطن العربي سياسة قومية تتقصد إحياء التواصل الرسمي في المجالات الخدماتية
والإدارية بلغة الضاد وإنعاش البحث العلمي باللغة العربية التي كانت قد
حُبِسَتْ لما يزيد عن خمسة قرون من الزمن في المجال الديني بدءا من الحكم العثماني
للبلدان العربية، وانتهاء بفترة الحماية والانتداب الأوروبيين لها.
ولأن السياسات "التعريبية" المذكورة كانت في حاجة إلى مؤسسات
لغوية تدعمها في مشروعها هذا، فقد تم تأسيس مجامع اللغة في كل قطر من أقطار العالم
العربي بعد الاستقلال (كمجمع اللغة العربية في القاهرة، والمكتب الدائم لتنسيق التعريب في الوطن العربي
بالرباط، والمجمع العربي في دمشق، والمجمع العلمي العراقي، إلخ). ولم يكن الهدف
وراء إنشاء هذه المجامع اللغوية هو ترجمة الوثائق والكتب والدوريات، وإنما كان الهدف "تطوير" اللغة
العربية و"إغناؤها" لمسايرة العلوم المتجددة على الدوام واللحاق
بالركب المعرفي الإنساني ومواكبة العصر.
يعتبر
العالمان اللغويان العربيان الجوهري وسيبويه قطبا طل تصور للتعريب منذ أكثر من
عشرة قرون من الزمن. فعند الجوهري العلامة اللغوي، "التعريب هو أن تتكلم
العرب بالكلمة الأعجمية على نهجها وأسلوبها" أما عند سيبويه النحوي المشهور، فـ"التعريب
هو أن تتكلم العرب بالكلمة الأعجمية مطلقا، فهم تارة يلحقونها بأبنية كلامهم،
وطورا لا يلحقونها بها". فمع الجوهري وسيبويه، صار "التعريب" يفيد "إيجاد مقابل عربي لكل لفظة
أعجمية معاصرة" سواء بـ"التعريب الاقتباسي" (اعتماد
اللفظة الأجنبية وصياغتها إما بوزن عربي على طريقة الجوهري أو بطريقة تلفظ
عربية على طريقة سيبويه) ، أو بـ"التعريب الوضعي"
(إما بترجمة اللفظة الأعجمية إلى اللغة العربية، أو بابتكار مقابل لها بناء على الأوزان الصرفية المعمول بها في لغة
الضاد). (9) أي، أن لفظة "تعريب" احتكرت من
طرف الحكومات والمؤسسات التابعة لها حيث صارت "قرارا حكوميا بعيد المدى"
يتغيا إعطاء اللغة القومية المكانة الطبيعية التي تستحقها في فترة الاستقلال أو
"فعلا مؤسسيا رسميا" يشتغل على المصطلح لتهييئه للدارس المتخصص في
مجاله، أو للمترجم في عملية تحويله للنصوص. وبذلك، صار "التعريب"
شكلا من أشكال "تموين" اللغة العربية بجديد اللفظ الوافد عليها.
2.2. خروج مفهوم
"التعريب" من التداول الترجمي الأدبي في القرن العشرين:
بتغير استعمالات لفظة "تعريب"،
تغير التلقي ذاته، بحيث صار استبدال لفظة "ترجمة"،
اليوم، بلفظة "تعريب" خيارا نشازا. إذ أصبحت لفظة "تعريب"
تستعمل اليوم للدلالة على وجود "عائق" تواصلي تفتقر فيه اللفظة
الواردة على اللغة الهدف إلى مقابل يبادلها نفس الدلالة في اللغة الأصل.
وعلى هذه الخلفية اللغوية، يصعب، اليوم، تقبل مبادلة "الترجمة"
ب"التعريب" ويصعب معها تقبل "تعريب" الأعمال
الأدبية العالمية من دواوين شعرية ومجاميع قصصية وروايات ومسرحيات وملاحم شعرية
وسير بأنواعها ومذكرات وخواطر. ف"تعريب" عمل أدبي أجنبي، بمفهوم
"التعريب" اليوم، يعني أحد اثنين: فإما أن الوحدات اللغوية لذلك
العمل الأدبي الأجنبي المرشح للترجمة "جميعها"، من أسماء وأفعال ونعوت وظروف وحروف، غير موجودة
في اللغة العربية وأن "المُعَرب" سيتحمل مسؤولية ابتكار تلك المقابلات وترتيبها في
جمل تصبح بموجبها نصا مكافئا للنص الأجنبي؛ أو أن الجنس أو النوع الأدبي المترجم
غير موجود في الأدب العربي وأن "المعرّب" هو
من سيتولى الترجمة من جهة والتأسيس لذلك الجنس أو النوع الأدبي من جهة ثانية.
وعليه، فحين قدم سليمان
خاطر البستاني نفسه لقراء القرن التاسع عشر على أنه "معرّب" ملحمة هوميروس "الإلياذة"، فقد
كان مُحقا مرتين: المرة الأولى لأنه لم تكن في الأدب العربي "ملاحم"
شعرية وكان هو أول من "عرّب" ملحمة إغريقية، والمرة الثانية
لأنه الوحيد الذي ترجم ملحمة "الإلياذة" شعرا وليس نثرا كما فعل
"جميع" مترجمي هذه الملحمة عبر التاريخ. فقد كتب البستاني في
تصديره للملحمة عند صدورها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: "هذه إلياذة هوميروس أزفها إلى قراء العربية
شعرا عربيا. ولقد استنفدت وسعي في نظمها وإلحامها راجيا أن تكون محكمة التعريب
خالية من شوائب اللكنة والعُجمة". (10) وكما يصح الأمر مع سليمان البستاني، "مُعرّب"
الملحمة الشعرية ومؤسسها في الأدب العربي، يصحّ كذلك القول على باقي "معرّبي"
الأنواع الأدبية الأخرى في القرن التاسع عشر. تلك الأنواع التي لم تكن موجودة في
التراث الأدبي العربي كالرواية والقصة القصيرة والمسرح وغيرها والتي أملت الضرورة التاريخية
ترجمتها، وبالتالي صحّ وصف فعل النقل هذا ب"التعريب".
حتى إذا ما ترسخت هذه الأنواع الأدبية وصار لها كتاب وقراء وناشرون في البلاد
العربية، "بطلت" صفة "التعريب" عن كل أدب أجنبي
منقول إلى اللغة العربية إذا ثبتت "ألفته" و"مألوفيته"
لدى القراء والنقاد والكتاب العرب على السواء.
وتأسيسا على ما سبق، يتضح
أن ابتعاد مترجمي القرن العشرين وما بعده عن استعمال لفظة "تعريب"
على واجهة مترجماتهم العربية هو نوع من أنواع النأي بالنفس عن اتهام اللغة العربية
ب"النقص". أما التشويش الذي قد يصيب متلقي اليوم للأدب "المترجم"،
فمرده لكون لفظة "تعريب" اليوم تنتمي لمجالات أخرى بعيدة كل
البعد عن الترجمة الأدبية كمجال المصطلحية ومجال السياسة اللغوية للدولة. لقد
خرج "التعريب" من التداول في مجال الترجمة الأدبية، منذ نهاية
القرن التاسع عشر، بعد غلبة تيار بطرس البستاني الداعم للترجمة المعادية للأسلوب
البياني العربي الأصيل وفتور أثر تيار رفاعة رافع الطهطاوي الداعم "للتعريب"
الشكلي ولأسلوب "الصنعة"، كما راج في العصور الذهبية للأدب
العربي قبل ألف سنة من عصره. هذا عن "تعريب" أشكال التعبير دون
المساس بالمضامين. وهو "تعريب" شاع لفترة زمنية وأفل نجمه في
القرن التاسع عشر. أما "تعريب" المضامين، فقد انبعث من رماد
"تعريب" الأشكال وصار له اسم آخر في القرن العشرين وهو "الاقتباس"
Adaptation.
3.2. لفظة "ترجم" كفعل عربي رسمي في القرن العشرين:
في القرن العشرين، شاع استعمال لفظة "ترجم"
شيوعا كاسحا ساعد على جمع شتات "كلّ"
الألفاظ الدالة على فعل الترجمة عبر تاريخ الثقافة
العربية. ففي هذا القرن بالذات، استقر الأمر على استعمال لفظة "ترجم"
للصيغ الثلاث الكبرى، الترجمة الفورية والترجمة التحريرية والترجمة الآلية
ولتشمل كل الألفاظ التي تم تداولها قديما للدلالة على فعل الترجمة، مُحَولَة إياها
إلى مجرد دوال على أدوار "فرعية" ووظائف "محدودة"
في فعل الترجمة ذاته. أي، أن لفظة "ترجمة" في الزمن الحاضر صارت
اللفظة العامة الدالة على فعل التحويل اللغوي للنصوص المكتوبة والمسموعة والإشارية
من اللغة الأصل إلى اللغة الهدف بينما صارت الألفاظ التي كانت في زمن مضى تؤدي هذه
الوظيفة مجرد "أدوات مساعدة" على فعل الترجمة ذاته، مثل: "فَسّرَ"
To Interpret و"نَقَلَ" To Transfer
و"عَرّبَ" To Idiomatise و"اقتَبَسَ" To Adapt و"نَسَخَ" To Copy و"حوّلَ" To Convert
و"اقترَضَ" To Borrow ...
لذلك، حافظت لفظة
"ترجم" على مكانتها الأصلية في نقل النصوص، مكتوبة كانت أو شفهية
أو إشارية أو صوتية أو سمعية-بصرية، من لغة إلى أخرى. أما الحدود بين "السيرة"
و"الترجمة"، فقد انمحت بحيث عوّضت "السيرة"
بمفهومها الحالي "التراجم" بأنواعها. فقد صارت "السيرة"،
في الزمن الحديث، تارة مختصرا عمليا للمسار المهني أو العلمي، وتارة أخرى فنا أدبيا خالصا يكتبه الأديب بنفسه، فيكون "سيرة ذاتية"، أو يكتبه أديب عن غيره فيكون "سيرة غيرية"، أو يعزز بالصور فيكون "سيرة ذاتية مصورة"، أو "سيرة غيرية مصورة". (11) وفي جميع
الأحوال، فقد خرج مفهوم "الترجمة"، في القرن العشرين، عن دلالاته
القديمة التي كان من خلالها يقابل "السيرة" ولو أن صدى
هذا التطابق القديم لا زال يتردد في المجال الديني بشكل خاص، حيث تربط الروايات والعنعنة القارئ في الوقت الحاضر بالمعنى اللغوي
في الزمن الماضي. كما لا زالت لفظة "ترجم" تتردد في المجالات
التي ينشط فيها النسابون والإخباريون والمؤرخون ممن يعتبرون معجم
السلف لغة شبه مقدسة.
4.2. ترجمة الأدب اختصاص القرن العشرين:
في القرن العشرين، عرفت الترجمة في سياقها
العربي ردّة شملت الترجمة التحريرية دون غيرها. فقد كان الأدب، عبر تاريخ
الثقافة العربية، خارج حسابات المترجمين العرب لمدة تزيد عن ثلاثة عشر قرنا اعتبر
خلالها الأدب العربي هو "أسمى الآداب وأكملها"، وأن ما ينقص العرب من علوم ومنطق هو ما
يستحق الترجمة والنشر والتعميم، وأن آداب العجم أدنى مرتبة من آداب العرب، وأن هذه
الآداب الأعجمية هي ما تحقّ عليها الترجمة إلى اللغة العربية كي تزداد حسنا وجمالا
واكتمالا بالبيان والبديع العربيين. في القرن العشرين، انقلبت الآية وصار الأدب
الأجنبي القادم من جميع الجهات هو قبلة المترجمين العرب:
ألئن الترجمة غالبا ما تدرج كمادة ثانوية في
الجامعات العربية في الشعب الادبية بشكل خاص؟
ألئن، مترجمي القرن العشرين ذوو ميول أدبية في
الغالب الأعم؟
أم لئنّ العلماء العرب مقصرون في حق الترجمة
العلمية فمالت الكفة لفائدة الترجمة الأدبية؟
ألا يمكن لضعف الطلب على المنتوج العلمي في السوق
القرائية أن تكون له يد في الأمر؟
ألا توجد الترجمة خارج دائرة اهتمام طلبة العلوم في
الجامعات ممن يتلقون تكوينهم أصلا بلغة أجنبية تسمح لهم بالاطلاع على جديد العلوم
في لغاتها الأصلية دون انتظار ترجمة قد تجود وقد تسوء؟
هل شجعت دور النشر الرحم البحث العلمي وانفتحت على
المختبرات العلمية في الجامعات حتى يصدّق الحديث عن دعم دور النشر للترجمة
العلمية؟
أسئلة كثيرة معلقة تحتاج الإجابة عنها إلى تضافر
جهود الفاعلين في مجال الإحصاء والاستقصاءات الميدانية وعلم الاجتماع بفروعه
لتقييم واقع الترجمة ورسم آفاق جديدة لها.
5.2. من "التعريب" أو الترجمة الواردة إلى
"التعجيم" أو الترجمة الصادرة:
شيوع لفظة "تعريب" في القرن التاسع عشر كان أساسه
الانتباه لفعالية الترجمة في التنمية الشاملة على المستوى الداخلي وفي التقارب
الثقافي على المستوى الخارجي. ما حفز القيمين على الحقل الثقافي آنئذ على التفكير
في ملء الكرسي الفارغ ولعب دور المتواصل المتفاعل الذي يبادل الأخذ بالعطاء؛
ويقايض "الترجمة الواردة"، التي تحارب الفقر المعرفي في الثقافة
الهدف وتحيّن المعارف المكتسبة، ب"الترجمة الصادرة"، التي تقدم
صورة إيجابية عن الذات من خلال التعريف المنتوج الثقافي المحلي عبر ترجمته إلى
اللغات الأجنبية و"تصديرها" إلى العالم. ولأن البداية كانت في
القرن التاسع عشر مع "الترجمة الواردة"، فكان طبيعيا
نعتها ب"التعريب" في انتظار "التعجيم" أو
"الترجمة الصادرة" التي تفيد الترجمة من اللغة العربية إلى
اللغات الأجنبية. ولفظة "تعجيم" كانت "نادرة"
الاستعمال في مجال الترجمة في القرن التاسع عشر إذ لم تبدأ أولى خطواتها إلا مع
ترجمات معاني القرآن الكريم إلى لغات العالم ابتداء من ثلاثينيات القرن
العشرين. أي، أن اعتماد لفظة "تعريب" في القرن التاسع عشر
للدلالة على الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية مبني على خلفية "التقابل
المؤجل" مع اللفظة المعاكسة المفترضة، لفظة "تعجيم".
6.2. استدعاء الترسانة اللغوية لتوليد مقابلات جديدة للأنواع
الترجمية الوليدة:
مع تفرع الأنواع الترجمية وتشعب الفروع الترجمية
الناتجة عنها، اضطرت اللغة العربية إلى إعادة تشغيل ترسانتها اللغوية لتوليد
مقابلات جديدة للأنواع الترجمية الرائجة عالميا. وبهذه الطريقة، سلكت المصطلحية
العربية ثلاثة مسالك. المسلك الأول يهمّ الأقسام الكبرى للترجمة وقد خصته
المصطلحية العربية ب"نعت واحد": الترجمة التحريرية Translating، والترجمة الفورية Interpreting، والترجمة الآلية Machine Translation. أما المسلك الثاني، فيهمّ الأقسام الفرعية الوليدة عن هذه
الأقسام الكبرى وقد خصّتهُ المصطلحية العربية ب"نعتين اثنين".
ففي قسم الترجمة التحريرية (نعت واحد)، يمكن التمييز بين الترجمة التحريرية الأدبية والترجمة التحريرية العلمية
والترجمة التحريرية التقنية والترجمة التحريرية التجارية والترجمة التحريرية العسكرية والترجمة التحريرية الإدارية (نعتان اثنان)
وغيرها. أما في قسم الترجمة الشفهية (نعت واحد)، يمكن التمييز بين الترجمة
الشفهية المنظورة Sight Interpreting والترجمة الشفهية التتبعية Consecutive Interpreting والترجمة الشفهية المتوازية Simulaneous Interpreting والترجمة الشفهية المهموسة Whispered Interpreting والترجمة الشفهية المجتمعية Community Interpreting (نعتان اثنان). أما في قسم الترجمة الآلية (نعت واحد)، فيمكن
التمييز بين الترجمة الآلية العصبية والترجمة الآلية الإحصائية والترجمة
الآلية الهجينة أو الترجمة الآلية المسندة بشريا (نعتان
اثنان). أما باقي الأنواع الترجمية، فقد آثرت المصطلحية العربية توليدها عن طريق
"التعريب الاقتباسي". أي، اعتماد اللفظة الأجنبية بنفس
طريقة التلفظ بها في لغتها الأجنبية وبالتالي صياغتها إما بوزن عربي على طريقة
الجوهري، أو الاحتفاظ بها على حالها الأعجمي مع النطق بها بطريقة تلفظ عربية على
طريقة سيبويه. وهكذا ظهرت في اللغة العربية: "سطرجة" أو "سوتيتراج"
Sous-titrage
و"دبلجة" أو "دوبلاج" Doublage وغيرهما من الألفاظ الوافدة
على معجم الترجمة الحديثة والتي تحتمل القراءتين في اللغة العربية.
وفي السبعينيات من القرن العشرين، تأسس "علم
الترجمة" أو "دراسات الترجمة". وبذلك، خففت
الترجمة اعتمادها على معياري الفن والموهبة لتدخل مرحلة جديدة
قوامها العقلنة والعلمية وتوحيد المصطلح...
ناقش هذا البحث المعنون "تاريخ
لفظة "ترجم" في السياق الثقافي العربي في القرن التاسع
عشر والقرن العشرين". وقد قاربه من منظور تاريخي تحليلي من خلال تقصي الوثائق
التاريخية. وقد انتهى البحث إلى النتائج التالية:
·
في صحوة القرن التاسع عشر، قادت معارك الأسلمة والعلمنة بين
الشام (التي يمثلها بطرس البستاني) ومصر (التي يمثلها رفاعة رافع الطهطاوي) إلى
استعمال الفعلين "عرّب" للوفاء للأسلوب العربي ذي النكهة
القرآنية و"ترْجم" للانفتاح على الأسلوب الصحفي الواضح والبسيط.
·
أما في القرن العشرين، فعرفت انتصار الفعل "ترجم" على غيره
من المصطلحات التي سادت في التاريخ العربي فيما توارى الفعل "عرب"
ليستقر في مجالين آخرين هما مجال "المصطلحية" ومجال السياسة
اللغوية بحيث صار "التعريب" يقابل "التعجيم".
إذا كان الغرب، حتى حدود القرن السادس عشر، قد اختار "المنهج" لتوليد لفظة "ترجم" في سياقه اللغوي وتفرق ما بين الوفاء للفظ القائم الذات في اللغة اللاتينية السائدة والموجود في اللغة الإنجليزية، To Translate، كما حدث مع الأنغلو-ساكسون الذين صيروا اللفظ دالا على منهج معين وهو "الترجمة الحرفية"، وما بين اختيار لفظ جديد كما فعل الفرنسيون، Traduire، الذين صيروا اللفظ دالا على منهج مغاير وهو "الترجمة الحرة"؛ فإن العرب قد سلكوا طريقا مختلفا إذ تدرجوا، عبر التاريخ، في استعمال عدة مصطلحات تحيل على الترجمة (كتب، قرأ، بلغ، أبلغ، فسر، نقل، عرّب، إلخ) إلى أن استقر بهم الأمر في القرن العشرين على اختيار لفظة "ترجم" التي صارت تحيل على "جميع" أشكال الترجمة، التحريرية منها والشفهية، البشرية والآلية...
اختيار العرب لـ"ترجم"
كمصطلح دال على فعل التواصل والتلاقح بين الشعوب يعود إلى تركيز
العرب على اللفظة الجامعة للثقافات ما دامت الترجمة أداة المثاقفة. ف"ترجم"
التي خرجت من رحم ثقافات أخرى وتجذرت في اللغات السامية قاطبة من كلدانية
وآشورية وآرامية وأوغاريتية وسريانية وعبرية
وغيرها. كما سادت اللفظة، "ترجم" في لغات عالمية أخرى لغاية
القرن التاسع عشر كلفظة "دراغومانو" التي تفيد "ترجمان".
فاختيار العرب للفظة "ترجم" هو اختيار مبني ليس على خلفية "منهج"
من مناهج الترجمة، كما هو الحال في الثقافة الغربية، وإنما هو مبني على "فلسفة"
خاصة و"رؤية" محددة للترجمة قوامها أن الترجمة، كأداة تواصلية
تتقصد التقريب بين الشعوب، يليق بها أن تتوشح بلفظة دالة "تتقاسمها"
لغات متعددة كلفظة "ترجم".
وتبعا لهذه النتائج، يتضح
بالملموس أن القرن العشرين كان قرن اكتساح لفظة "ترجم"
للمجال التواصلي والأكاديمي بقوة كما كان قرن تحرير الفعل الترجمي العربي
من البهرجة البيانية والمحسنات البديعية، فَتَرَسّمَ التعبير بلفظة
"ترجمة" للدلالة على "الترجمة الشفهية" و"الترجمة
التحريرية" على السواء. وبذلك، صارت "ترجمة" هي اللفظة
الرسمية للتعبير عن محاولات تحقيق التواصل بين اللغات والثقافات: "ترجمة
حرفية" و"ترجمة حرة (جدا)". أما باقي الألفاظ
المستعملة في العصور الغابرة، "أبلغ" و"بلّغ"
To Inform و"فسّر" To Interpretو"نقل" To Transfer و"عرّب" To Idiomatise وغيرها، فقد
توارت لتصبح مجرد "أدوات ترجمية".
هذا التأريخ لتطور الألفاظ الدالة على "الترجمة"
في السياق العربي يثبت أن الثابت في التاريخ غير موجود وأن الثابت
الحقيقي هو "المتغير" على الدوام. وعليه، فالباحثون العرب ممن
يستلون اللفظة من سياقها التاريخي ويقدمونها في مفهوم "ميتافيزيقي"
للقراء. فهذا يقدم التعريب على أنه أشمل من النقل والترجمة وأنه مكون من
مكونات التراث،
(12) وذاك يقدم النقل
والترجمة على أنها أشمل من التعريب وأنهما مفهوم واحد ذو وجهين: نقل من
اللغة وإليها. (13) وفات الجميع
أن اللفظ لا يحيا خارج سياقه ولا يتخذ دلالة ثابتة ولا يقبل بالتحنيط.
الهوامش:
(1)- الرافعي،
عبد الرحمن: عصر محمد علي، الطبعة الخامسة، القاهرة: دار المعارف، 1989، ص.
427-483.
(2)-
المرجع نفسه، ص ص. 427-483.
(3)- سوميخ،
ساسون: ملامح أسلوبية جديدة في الأدب العربي الحديث، الطبعة الأولى،
حيفا: مجمع اللغة العربية، 2012، ص. 8.
(4)- المرجع نفسه، ص. 13.
(5)-
المرجع نفسه، ص. 8.
(6)-
فينيلون: مواقع الأفلاك في وقائع تيليماك، ترجمة رفاعة رافع الطهطاوي،
القاهرة: الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، 2002، ص. 32.
(7)-
Fenélon: Les aventures
de Télémaque, Tome
Premier, Paris: Imprimerie et Fonderie de G. Doyen, 1830, p.5.
(8)- مجموعة باحثين: الأقليات
والقومية في السلطنة العثمانية بعد 1516، بيروت: الجمعية
التاريخية اللبنانية، 2001، ص. 264.
(9)- العلمي، إدريس بن
الحسن: في التعريب. جمعه وقدم له وأخرجه د. أمل العلمي. الطبعة الأولى. (الدار
البيضاء: دار النجاح الجديدة، 2001). ص. 17.
(10)-
هوميروس: الإلياذة، ترجمة سليمان خاطر البستاني، القاهرة: مؤسسة هنداوي
للتعليم والثقافة، 2012، ص. 9.
(11)- الريحاني، محمد سعيد: "نحو
تقليد إبداعي أدبي جديد: الفوتو-أوتوبيوغرافيا"
(أو السيرة الذاتية المصورة)، المجلة العربية، (الرياض: عدد 381،
أكتوبر، 2008)، ص. 80-81.
(12)- مقدسي،
أنطوان: "التعريب في دلالته التاريخية: من الترجمة إلى التعريب"، مجلة الآداب،
مجلد 23، عدد 1 (1/1975)، ص. 14-16، ص. 49-55.
(13)- ديداوي،
محمد: "الترجمة إلى العربية"، اللسان العربي، عدد 25، 1984/1985،
ص. 55-75.