ترجمة الأعمال الإبداعية العربية إلى اللغات الأجنبية: تجربتي في ترجمة القصة المغربية القصيرة

بعض الأعمال الأدبية "العظيمة" لم يقرأها أحد لا من القراء ولا من النقاد في حياة مؤلفيها، وبالتالي لم يواكبها نقد أدبي ولا قاربتها ترجمة. ومن هذه التحف الأدبية رائعة عمر الخيام النيسابوري "رباعيات الخيام" التي كتبت في القرن الحادي عشر على الأرجح وأفلتت من الضياع بعد موت صاحبها الذي أرادها مذكرة حميمية ترافقه حيثما حل وارتحل كما نجت من الحرق على يد المغول ولم تظهر إلى الوجود ولم يتعرف عليها القراء إلا بعد أزيد من سبعة قرون على وفاة صاحبها، أي في القرن التاسع عشر. واليوم أشعار "رباعيات الخيام" مترجمة إلى لغات العالم، ويستشهد بها كبار الصوفية والمبدعين والعشاق في أنحاء الأرض كما يمكن لزائر مدينة شنغهاي الصينية أن يقرأ بنفسه أبياتا من شعر الخيام منقوشة بلغة أبناء هان، اللغة الصينية، على رخام "شارع الحب الجميل" وسط المدينة. قد يدعم هذا التقديم الحناجر الهاتفة بأن الأعمال العظيمة تعرف طريقها حتما إلى لغات العالم عبر الترجمة وأنه ما على الأديب العظيم سوى الانتظار. لكن ثمة أصوات أخرى على الجهة الأخرى تهتف بشعارات مغايرة: شعارات التحكم في الترجمة وتوجيهها الوجهة الإيجابية من خلال إعطاء صورة إيجابية عن الذات.

من بين أهم الغايات التي تتقصدها الترجمة عبر العصور هي:  إعطاء صورة إيجابية عن الذات في لحظات الاستقرار والانتشار كما تفعل اليابان والغرب الآن من خلال تصدير ثقافتيهما للعالمين بكل اللغات. والترجمة هي أيضا إيداع إنتاجات ثقافية في بنوك التاريخ الثقافي في لحظات الانهيار كما حدث مع كتب ابن رشد القرطبي في القرون الوسطى إذ لولا الترجمة العبرية لأعماله لضاعت أعماله إلى الأبد بعدما أحرقها المغاربة في عهد الموحدين، كما أن الترجمة تبقى أيضا فرصة المصالحة مع الذات من خلال ترجمة نصوص الذات المكتوبة بلغات أجنبية كما تفعل المترجمة المغربية زهرة رميج المختصة في نقل الأعمال المغربية المكتوبة باللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، التي كان من المفترض أن تصدر مكتوبة بها منذ البداية. فيما تبقى الغاية الكبرى لبعض الأمم من وراء الترجمة هي الرغبة في اللحاق بالركب وفي الإقلاع الحضاري من خلال استضافة الغريب وترجمته.

وبما أننا، نحن كتاب القصة القصيرة في مغرب بداية الألفية الثالثة، كنا مقتنعين بفعالية ترجمة الذات للإشعاع في ثقافة الآخر ولغته؛ فقد بلورنا مشروعا ترجميا تنظيريا وإبداعيا قصصيا مغربيا خاصا بترجمة خمسين (50) قاصة وقاصا مغربيا إلى اللغة الإنجليزية، مشروع "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة". وهو مشروع يتقصد ثلاث غايات أولها  التعريف بالقصة القصيرة المغربية عالميا؛ وثانيها التعبئة بين أوساط المبدعات والمبدعين المغاربة لجعل المغرب يحتل مكانته الأدبية كعاصمة للقصة القصيرة في المغرب العربي إلى جانب الجزائر عاصمة الرواية بقاماتها الروائية العالمية وتونس عاصمة الشعر بروادها ومعاصريها على اعتبار الرأسمال القصصي المغربي المنشور ورقيا سيتجاوز، عما قريب، عتبة الألف مجموعة قصصية قصيرة وهو ما يفوق بكثير عدد المجاميع القصصية الصادرة في بلدان المغرب العربي الكبير الأربعة الأخرى مجتمعة؛ وثالثها التأسيس ل"مدرسة" مغربية قادمة للقصة القصيرة الغدوية عبر هدم آخر قلاع العتمة  في الإبداع المغربي  (الحلم والحب والحرية) واعتماد هذه "الحاءات الثلاث" مادة للحكي المغربي الغدوي التي بدونها لا يكون الإبداع إبداعا .

إطلاق مشروع  "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة" الخاص بترجمة القصة المغربية القصيرة إلى اللغة الإنجليزية كان مشروعا ثلاثيا (في ثلاث أجزاء على ثلاث سنوات، 2006 و2007 و2008) أريد له "التعريف" بالحساسيات الجديدة للقصة المغربية القصيرة الجديدة عن طريق "ترجمتها".  وقد فتح المشروع صدره لجميع الأقلام المبدعة في مجال القصة القصيرة شريطة أن تكون تيمة النص القصصي حلما بالضرورة في الجزء الاول من الأنطولوجيا التي عرفت ب"الحاءات الثلاث"، أو أن تكون تيمة النص القصصي حبا في الجزء الثاني من الأنطولوجيا، أو حرية في الجزء الثالث والأخير من الانطولوجيا. وبذلك، ابتدأ، على موقع "ريحانيات" الإلكتروني، النشر الإلكتروني لنصوص الجزء الأول من أنطولوجيا "الحاءات الثلاث" مع فاتح أبريل سنة 2006  من خلال الالتزام بالموعد نص الشهري الذي من خلاله ينشر نص واحد مترجم كل أسبوعين. وكان أول النصوص المترجمة نص للقاص المغربي نور الدين محقق وعنوانه "تأويل الأحلام" ثم تلته باقي النصوص الخمسة عشر الحالمة، ضاربين موعدا لنصوص "الحب" ضمن ذات الانطولوجيا مع الجزء الثاني في السنة الموالية، سنة 2007، ثم نصوص "الحرية" في سنة 2008. وبموازاة مع النشر الإلكتروني لنصوص النسخة العربية من الأنطولوجيا، نشطت على الواجهة الورقية عمليات نشرمتفرقة لنصوص النسخة الإنجليزية من ذات الأنطولوجيا، "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة"، نزولا عند طلب مُعدي أنطولوجيات أمريكية وإفريقية عدة صدرت في الولايات المتحدة وإفريقيا ما بين 2010 و2015.

فكرة إعداد أنطولوجيا للقصة القصيرة الجديدة بالمغرب خطرت ببالي لأول مرة في سنة 2006 عندما طلب مني أحد الكتاب المغاربة، وهو بالمناسبة القاص والناقد نور الدين محقق، ترجمة نص قصصي له. فاخترت من بين نصوصه نصا حالما جعلني أفكر مليا في مشروع أدبي إبداعي أغير فيه اتجاه مقروئية نصوصنا ليصبح فيه القارئ الذي نكتب له قارئا "أجنبيا". وتساءلت: لماذا لا يقرأ القارئ الأجنبي نصوصا كهذه؟ لماذا لا نختار للقراء الأجانب ما يقرؤونه لنا كما يختارون لنا ما نقرأه لهم؟ لماذا لا نقدم لغيرنا الصورة المشعة التي نريدهم أن يروننا من خلالها؟ وهكذا بدأت تتبلور فكرة غعداد أنطولوجيا لا كالأنطولوجيات فكانت "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة" بأجزائها الثلاثة، "حاء الحلم" عام 2006 و"حاء الحب" عام 2007 و"حاء الحرية" عام 2008.

فكرة إعداد أنطولوجيا للقصة القصيرة الجديدة بالمغرب خطرت ببالي لأول مرة في سنة 2006 عندما طلب مني أحد الكتاب المغاربة، وهو بالمناسبة القاص والناقد نور الدين محقق، ترجمة نص قصصي له. فاخترت من بين نصوصه نصا حالما جعلني أفكر مليا في مشروع أدبي إبداعي أغير فيه اتجاه مقروئية نصوصنا ليصبح فيه القارئ الذي نكتب له قارئا "أجنبيا". وتساءلت: لماذا لا يقرأ القارئ الأجنبي نصوصا كهذه؟ لماذا لا نختار للقراء الأجانب ما يقرؤونه لنا كما يختارون لنا ما نقرأه لهم؟ لماذا لا نقدم لغيرنا الصورة المشعة التي نريدهم أن يروننا من خلالها؟ وهكذا بدأت تتبلور فكرة غعداد أنطولوجيا لا كالأنطولوجيات فكانت "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة" بأجزائها الثلاثة، "حاء الحلم" عام 2006 و"حاء الحب" عام 2007 و"حاء الحرية" عام 2008.

فكرة ترجمة نصوص القصة المغربية القصيرة إلى اللغة الانجليزية كانت في البدء نابعة من عدم قبول الشح  الواضح في النصوص السردية المغربية المكتوبة أو المترجمة إلى اللغة الانجليزية. وكان هذا الحس بالغيرة   ورد الاعتبار هو محرك مبادرة ترجمة نصوص سردية مغربية جديدة للتعريف  بها  لدى القارئ الآخر. لكن هذا القارئ  الآخر ليس قارئا محايدا بل هو قارئ  متشبع بثقافة أخرى ترى في الثقافة العربية، عموما، عيبا كبيرا وهو انعدام الحرية إذ لا زالت "ألف ليلة وليلة" الرواية تتصدر المبيعات الأدبية العربية إلى اليوم بفضل السقف العالي للحرية التي تتمتع بها. فإذا كانت الطابوهات في الحياة العربية تحدد في ثلاث:  الدين و الجنس والسياسة. فسيكون من الأجدى توسيع الدوائر الثلاث اكبر ما يمكن توسيعه لتصبح الطابوهات الثلاث تحمل اسم  "الحاءات الثلاث": حاء الحلم  وحاء الحب وحاء الحرية . وهي الحاءات المصادرة في ثقافتنا على اعتبار  الحلم تخريفا والحب ضعفا والحرية فتنة والفتنة نائمة في الرؤوس ملعون من يوقظها. لذلك، أريد لهذا المشروع الانطولوجي أن يكون مركبا للعبور نحو الضفة الأخرى والقراء الآخرين في أفق تواصل أكثر انفتاحا في زمن الدوائر الضيقة والآفاق الضيقة وسيادة قاعدة "مبدع الحي لا يطرب". وكم كنت متفائلا، خمس سنوات قبل انطلاق انتفاضات الربيع العربي الأولى عام 2011، بأن المشروع سيكون له صدى في كافة ربوع الوطن العربي وستتفتح بموازاة معه جنسيات أخرى لأنطولوجيات أخرى حول تيمات حرة أخرى… المشروع كان فقط فاتح شهية لانفتاح إبداعي عربي قادم على الآخر مثلما كان إدانة لواقع القراءة المتردي في كل ربوع البلاد العربية.

أما، على الواجهة الأخرى، فقد كان المعسكر يعج بالتشكيك والنقد والانتقاد لهذا لتصورنا للترجمة ولطريقة اشتغالنا على هذا المشروع الذي صيرناه بقوة الإرادة والعزيمة إلى حقيقة. ومن بين تلك الانتقادات، أتذكر الملاحظات التالية وهي تخص الأهداف المحددة لمشروع "الحاءات الثلاث" منذ بداياته:

* لا طاقة لمغربي بترجمة عكسية لنصوص من العربية على الإنجليزية وإلا سيضطر لنشر نصوص سهلة لا تمثل القصة المغربية. وان الإنجليز هم المؤهلون للقيام بمهام من هذا العيار.

* الأجدى ترجمة النصوص الإنجليزية إلى العربية للاستفادة منها لا العكس.

* الترجمة إلى لغة أخرى ستخصيها من كل فحولتها في لغتها الأم ما دام الهدف هو  تزيين الصورة ليقبلك الآخر...

* الكتابة عن المغرب تتطلب وضع اليد على أماكن الخلل ونشر غسيله الوسخ بينما الترجمة ستعمل على إخفاء هذا الوسخ وستكون بذلك ترجمة سياحية من الأفضل أن تشرف عليها وزارة السياحة!...

وهذه الملاحظات جميعها تستمد جذورها ومقوماتها من فلسفة "صدام الحضارات" الذي نعارضه جذريا بتبنينا لفلسفة بديلة: فلسفة "حوار الحضارات".

لماذا لا نأخذ زمام الامور بأيدينا؟

ألم يكن الاتحاد السوفياتي يخصص ميزانيات في حجم ميزانيات التسلح لرسم صورته عن طريق ترجمة الأدبيات الماركسية وأشكال تدبير الحكم على النمط السوفياتي إلى كل لغات العالم؟

 ألا تفعل اليابان ودول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة نفس الشيء أيضا؟

إن القضية الحقيقية في زمننا المعاصر هي ضمان موطئ قدم وسط هذا السيل الهائل من الصراع على الوجود والهيمنة. ف"من لا صورة له، لا وجود له". و"من صنعت له صورته، صنعت له معها أدواره".و"من صنعت له أدواره، أضاع فرصته في الحياة". وبما أن الترجمة أداة من أدوات صناعة الصورة، فقد كان لنا تصور خاص في هذا الصدد وفضلنا تجسيده في "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة" بأجزائها الثلاثة وسلمنا المشعل لغيرنا.

 --------

المراجع:

أنس الفيلالي، "رَيْحاَنِيَاتٌ" (سلسلةُ حوارات شاملة من ْ أربعين َ لقاءً صحفياً مع محمد سعيد الريحاني)، عمان/الأردن: دار الصايل للنشر، الطبعة الأولى، 2012 (الطبعة المغربية: مكتبة سلمى الثقافية، تطوان/المغرب، 2016).  

كتاب جماعي، "مع الريحاني في خلوته" (ثلاثون حوارا في الفن والثقافة والأدب مع محمد سعيد الريحاني أجراها أدباء ونقاد وإعلاميون عرب) تطوان/المغرب: مكتبة سلمى الثقافية، الطبعة الأولى، 2016.

محمد سعيد الريحاني، "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة"، الحاء الأولى: حاء الحلم، الطبعة الأولى، الرباط (المغرب): د.ن.، 2005.

محمد سعيد الريحاني، "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة"، الحاء الأولى: حاء الحب، الطبعة الأولى، الرباط (المغرب): د.ن.، 2006.

محمد سعيد الريحاني، "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة"، الحاء الأولى: حاء الحرية، الطبعة الأولى، الرباط (المغرب): د.ن.، 2007.




 

 

البيت الافتراضي للكاتب المغربي محمد سعيد الريحاني
بواسطة : البيت الافتراضي للكاتب المغربي محمد سعيد الريحاني
محمد سعيد الريحاني كاتب مغربي، عضو اتحاد كتاب المغرب، حاصل على شهادة الدكتوراه في الترجمة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة/المغرب، 2023، وعلى شهادة الماستر (ماجستير) في الكتابة الإبداعية من كلية الفنون الجميلة بجامعة لانكستر بإنجلترا، 2017.، وعلى شهادة الماستر (ماجستير) في الترجمة والتواصل والصحافة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة/المغرب، 2015.وعلى شهادة الإجازة (ليسانس، باكلوريوس) في الأدب الإنجليزي من جامعة عبد الملك السعدي، تطوان/المغرب سنة 1991.
تعليقات