السيرة الذاتية الروائية المصورة - الخلفية النظرية 1

 

نحو تقليد إبداعي أدبي جديد:

"الفوتوأوتوبيوغرافيا الروائيةأو "السيرة الذاتية الروائية المصورة"

 


السيرة الذاتية الروائية: المفهوم والتجربة

إذا كانت الكتابة عموما هي شكل من أشكال تحقيق الفكر وجعله واقعا على الورق أو على الأرض، فإن كتابة السيرة الذاتية الروائية، كفرع من فروع الكتابة، تبدأ بنية الإدلاء بشهادة عينية لإثبات حقيقة حدثت وتنتهي بتحقيق السعادة التي ما بعدها سعادة: سعادة اكتشاف الذات. إن كتابة السيرة الذاتية الروائية تبقى تجربة للبحث في الذات ومحاولة لاستكشاف عوالمها بغية فهم ذوات الآخرين. فمتى أحب المرء ذاته أحب غيره ومتى كره المرء ذاته كره غيره ومتى جهل المرء ذاته جهل غيره. إن فهم الذات والمصالحة معها هو السبيل لفهم الآخرين والمصالحة معهم.

تنقسم السيرة الذاتية الروائية، حسب الأهداف المتوخاة منها، إلى أربعة أقسام تبعا "لمنطق الربح والخسارة":

-1- خاسر ومازال خاسرا: الهدف من كتابة السيرة الذاتية الروائية يبقى هو الاعتراف وجلد الذات.

-2- كان خاسرا وصار رابحا: الهدف يبقى هو الفخر والاعتزاز بالذات.

-3- رابح ولا زال رابحا: الهدف يبقى هو التنظير والتبشير بعوالم جديدة وسن قوانين وقواعد جديدة.

-4- كان رابحا وصار خاسرا: الهدف يبقى هو الانتقام والفضح.

 

والسيرة الذاتية تتجلى في ثلاثة أشكال. فهي قد تكون سيرة ذاتية توثيقية في شكل يوميات Diaries إذا كتبت في عين المكان وفي تاريخ حدوث الوقائع أو في شكل مذكرات Memoirs إذا كتبت بعد ذلك التاريخ إما من وحي الذاكرة أو بالاعتماد شبه الكلي على ما توفر من وثائق المرحلة المشتغل عليها. كما قد تكون السيرة الذاتية روائية مسرودة بضمير المتكلم كما في رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري أو بضمير الغائب كما في "الأيام" لطه حسين. وقد تكون روائية من جهة أولى ومصورة من جهة ثانية. وهو الجنس الأدبي-الفني الوليد الجديد على الثقافة العربية أولا وعلى الثقافة الإنسانية عموما. ونتمنى أن تكون هذه السيرة الذاتية المصورة، "كانت أمنيتي أن أكمل الحكاية الحجر الأساس لهذا الجنس الأدبي-الفني الذي نأمل أن يصبح تقليدا إبداعيا راسخا في الثقافة العربية والإنسانية عموما يصالح القراء مع الكتاب في زمن العزوف عن القراءة ويعرف القارئ عن قرب على المؤلف جاعلا من الكتاب ملاذا حميميا مادامت السيرة الذاتية تقرأ أصلا بشكل مختلف عن باقي الأشكال المكتوبة. وهذا ما يفسر الإكبار الذي لقيته المعلقات والدي لم يتكرر بعد عصر الجاهلية بسبب خروج الشعر عن الفخر بالذات والانحباس في مقايضة مال السلاطين بهبة الإبداع...

 

الصورة وكتابة "السيرة الذاتية الروائية":

تقول الأغنية المغربية:

"صورة خيالي في عيونه

كيفاش يمكن يمحيها؟"...

 

الصور قبس من نور يفتح الحياة فجأة على لحظات سعيدة منسية فتغمرنا سعادة كانت تحيط بنا ونحن لا نعلم أنها في المتناول وأنها لا تنتظر إلا حركة بسيطة منا بمجرد الضغط على زر صورة من الصور ليتبدد الظلام في دواخلنا ويضاء المكان حوالينا ويستنير العالم. إنها بمثابة "مَرْكَبَةٍ" يستقلها الإنسان بين الفينة والأخرى في سفر عبر الزمن يعود من خلاله إلى لحظة بعيدة ونعود معه كل الأشياء والأحياء والظروف المحيطة بالصورة إلى الحياة من جديد فتغمره سعادة منسية.

فالصورة من جهة تبقى مخلصة من النسيان ومن جهة أخرى تبقى الصورة رديفا للحقيقة. والصورة في كلا الحالتين تبقى حليفا  للكتاب وقد بدأ ذلك التحالف وتحققت تلك المصالحة بين الكتاب والصورة مند القديم مع الكتب المدعومة والمعززة بالصور ووسائل الإيضاح Illustrated books الخاصة بالأطفال أو بالمبتدئين في مجال معين: طبخ، بيولوجيا، فلك، يوغا، قصص الأطفال... ثم تعزز ذلك التحالف وتقوت تلك المصالحة بين الكتاب والصورة مع الكتاب الالكتروني في مجالات العلوم والفنون والثقافة والآن يعرف ذلك التحالف بين الصورة والكتاب في مجال كتابة السيرة الذاتية إعلان  تأسيس  "الفوتو- أوتوبيوغرافيا الروائية" من خلال هذه "السيرة الذاتية الروائية المصورة" التي يراد لها أن تكون مساهمة أولية في هذا المشوار.

محاولات الكتابة في جنس السيرة المصورة تكاد تنحصر في كتابة السيرة الغيرية من طرف المعجبين والأتباع على السواء. لذلك، فهي تنضوي تحت جنس "السيرة الغيرية المصورة" Photobiography كما هو الحال مع "فوتوبيوغرافيا ألبرت اينشتاين" للكاتبة مارفيه فرغسن ديلانو Marfé Ferguson Delano  و"فوتو- بيوغرافيا لينكولن"  للكاتب راسل فريدمن Russell Freedman و"فوتوبيوغرافيا غاندي"  للكاتب بيتر روهه Peter Rühe و"فوتوبيوغرافيا مارتن لوثر كينغ"  للكاتبين بوب أدلمن وتشارلز دجونسن Charles Johnson & Bob Adelman  و"فوتوبيوغرافيا تشي غيفارا"  للكاتبين كرستفر لافينيه وكريستوف لافينغ Christopher Loviny &  Christophe Loving... لكن هدفنا من المشروع الراهن، "فن كتابة الفوتوأوتوبيوغرافيا ليس هو دعم السيرة الغيرية المصورة التي استنفدت جهد أكثر من باحث في أكثر من ثقافة وأكثر من لغة وإنما التأسيس لتقليد أدبي إبداعي جديد، السيرة الذاتية الروائية المصورة، يشرف فيه الكاتب بنفسه على إنطاق الصور بدل تزيين السيرة بالصور الذي يبقى هدف غيرنا.

 

ما بين "السيرة الغيرية المصورة" و"السيرة الذاتية الروائية المصورة" و"السيرة الذاتية الموضحة بالصور":

الفرق بين "السيرة الغيرية المصورة" Photobiography و"السيرة الذاتية الروائية المصورة" Photoautobiography يمكن الانتباه إليه من عدة زوايا، أهمها: خاصية الكتابة من الداخل (حالة "السيرة الذاتية الروائية المصورة" التي يشرف عليها الكاتب بنفسه) وخاصية الكتابة من الخارج (حالة "السيرة الغيرية المصورة" التي يشرف عليها المعجبون والأتباع).  

أما الفرق بين "السيرة الذاتية الروائية المصورة" Photoautobiography  و"السيرة الذاتية الموضحة بالصور" Illustrated Autobiography  فيمكن الانتباه إليه من عدة زوايا، أهمها: أولا، أن "السيرة الذاتية المصورة" تبقى كتابة أدبية  بينما تنفتح "السيرة الذاتية الموضحة بالصور" على الكتابة التعليمية (سير عظماء التاريخ، مثلا) والكتابة التسويقية (سير الفنانين والنجوم والمشاهير)... ثانيا، أن الصورة محورية في "السيرة الذاتية الروائية المصورة" فهي السارد وهي الموضوع في الآن ذاته؛ فالصورة سابقة على النص لذك كانت مولدة له. وهي، بذلك، غير وصفية ولا تكتفي بالتعليق. إنها تعيد عقارب الزمن ووجدان الكاتب معا إلى الوراء لإعادة الحياة إلى مجال حيوي أحاط بالصورة عند التقاطها ونفخ فيها من روحه.

 أما في "السيرة الذاتية الموضحة بالصور" Illustrated Autobiography، فالصورة مجرد أكسسوار ثانوي يمكن حذفه دون تأثير على بنية العمل الأدبي لأن النص، "السيرة الذاتية الروائية المصورةسابق للصورة وربما مغيب لها: فنص السيرة هو أول ما يكتب ثم يتم البحث بعد ذلك عن الصور لتوضيح المكتوب. فيما يبقى دور الفنان المنشط للكتاب بالصور او الموضح لأفكاره بالصور دورا غير هام داخل العمل لأنه لم يعايش اللحظة التي تخلدها الصورة...

 

نحو "الفوتوأوتوبيوغرافيا الروائية"، أو "السيرة الذاتية الروائية المصورة":

"كانت أمنيتي أن أكمل الحكاية" هي أول "سيرة ذاتية روائية مصورة" وهي صور تحكي صورا: صور حاضرة تحيل على صور غائبة، لقطة جامدة تعيد للحياة مشهدا قابعا تحت طبقات سميكة من النسيان. ولذلك، كانت "كانت أمنيتي أن أكمل الحكاية" محركا لحرارة الحياة الحبيسة تحت رماد النسيان وبرودة العادة.

ولعل الشذرية هي أهم ما يميز "الفوتوأوتوبيوغرافيا الروائية" عكس كل المفاهيم السائدة في كتابة السيرة الذاتية الأدبية التي تنهج سبيل الخط الوحيد لأحداث منتقاة حدثت للكاتب على فترات متباعدة لتظهر حياته بلون واحد وخطاب واحد وقدر واحد فتظهر حياته، مهما طالت أو قصرت، حياة شقاوة خالصة أو دليل سعادة صافية، أو مسار تشرد قح، أو مشوارا مخصصا للبحث عن المعرفة...

 إذا كانت الحبكة في السرد الواقعي موضوعية خارجية يتحكم فيها سارد واحد يمسك بخيوط الأحداث ويخضعها للترتيب الكرونولوجي للأحداث، فإن الحبكة في كتابة تيار الشعور ذاتية داخلية تسردها الشخوص دون الحاجة للكلام الملفوظ (تجربة ويليام فولكنر، مثلا)، فإن الحبكة في "كانت أمنيتي أن أكمل الحكاية"، تجمع بين الاثنين وتضيف لهما بعدا ثالثا: البعد البصري، الصورة. ولهذا، سيكتشف القارئ في هذه "الفوتوأوتوبيوغرافيا الروائية" المقدمة بالصورة والعقدة وتطورها بالصورة والخاتمة بالصورة...

 

الكتابة بضمير المتكلم:

 في أكثر من حوار صحفي وفي أكثر من مناسبة، أشهرنا ميلنا للكتابة بضمير المتكلم لكن التزامنا بخصوصية النص وانشغالنا بمصالحة شكل النص بمضمونه قللا من هذا الميل الذي عادة ما يجد ضالته في كتابة اليوميات والمذكرات والسير الذاتية.

 في هذه السيرة الذاتية الروائية المصورة، "كانت أمنيتي أن أكمل الحكاية ستتحرر الذات بالذاكرة من قيود الحكي وسطوة الزمن وإيقاعية الحياة وركام الأعباء والمسؤوليات وآلية الأجندات لتعود مع كل صورة إلى أصل الحياة. ولذلك، فقد حاولت السيرة الذاتية دائما أداء هذا الدور لكن السيرة الذاتية في أشكالها المكتوبة الموجهة بخطاب واحد محدد غالبا ما جعلت مادة الحكاية خارج سياق الحياة التي أنتجتها وبذلك صارت مادة تخييلية وليس سيرة ذاتية.

إن الحياة تكون حياة والواقع واقعا قبل التحرير والتدوين والكتابة. أما بعد الكتابة فتصبح تلك الحياة وذلك الواقع مشروع حياة جديدة ومشروع واقع جديد. إن الكاتب لا يمكنه أن يكون ناقلا للواقع وناسخا له. الكاتب هو مبدع لواقع جديد ولحياة جديدة. ولن يكون في متناوله في وقت من الأوقات أن يحيد عن هذا الدور حتى ولو أراد هو ذلك. فالكاتب له زوايا نظر خاصة به ومبادئ ومواقف ومصالح ومطامح ورهانات واختيارات تتحكم في ما يكتبه فيصبح بالإمكان تحوير الواقع أو الحياة موضوع الكتابة ملايين المرات بحيث تصبح الحياة الفردية الواحدة حيوات متعددة لامتناهية: حياة تشرد في مجتمع لا مبال كما في "الخبز الحافي" سيرة محمد شكري الذاتية الروائية، أو حياة براءة ودلل كما في "في الطفولة" سيرة عبد المجيد بن جلون الذاتية، أو حياة مكرسة للعلم والمعرفة كما في "الأيام" سيرة طه حسين الذاتية... ولكن هل يعقل أن تكون حياة فردية بأكملها مجرد تشرد، أو مجرد براءة، أو مجرد علوم ومعارف؟ هذه هي خاصية الأدب: خصوصية الأسلوب والخطاب. وهذه هي وظيفة الأدب: التأثير في القارئ بخلق انطباع واحد أو متقارب لدى عموم القراء، وهده هي قوته التي بدونها لن يبقى أدبا فينسحب فاسحا لعلوم إنسانية أخرى كالتاريخ والسوسيولوجيا وغيرها.

إذا كانت الصورة معادلا للحقيقة، فلماذا لا تستثمر الصورة في الكتابة السيرية الروائية لدعم الحقيقة التي تنشدها: حقيقة المحكي وحقيقة الواقع؟ إن هذه السيرة الذاتية الروائية المصورة، "كانت أمنيتي أن أكمل الحكاية"، مساهمة في التأسيس لشكل جديد من أشكال الرواية من جهة والسيرة الذاتية من جهة ثانية قوامه الظهور بمظهر التعليق على الصورة المرتبة كرونولوجيا من خلال تشغيل ضمير المتكلم والتأريخ للحيوات الصغرى والأنشطة المحلية في دوائر الفعل الاجتماعي والثقافي والسياسي الدنيا عبر تسمية الأمور بمسمياتها. والفوتوأوتو بيوغرافيا الروائية، وإن بدت متشظية بفعل كمّ الصور المعروضة، فإنها متمسكة بخيط الحكاية الرفيع. فالالتزام بمبادئ الرواية أوّليّ. فإذا كانت الرواية تقوم أساسا على ثلاث ركائز، السرد والوصف والحوار، فإن الفوتوأوتو بيوغرافيا الروائية حافظت على هذه الركائز مع استبدال الوصف بالصورة الفوتوغرافية لتمدّ جسرا بين الرواية والسيرة الذاتية والصورة الفوتوغرافية.

 

 بتاريخ 25 مايو 2008


مقال منشور على صفحات "المجلة العربية"، عدد381: أكتوبر 2008، صفحة 80-81

البيت الافتراضي للكاتب المغربي محمد سعيد الريحاني
بواسطة : البيت الافتراضي للكاتب المغربي محمد سعيد الريحاني
محمد سعيد الريحاني كاتب مغربي، عضو اتحاد كتاب المغرب، حاصل على شهادة الدكتوراه في الترجمة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة/المغرب، 2023، وعلى شهادة الماستر (ماجستير) في الكتابة الإبداعية من كلية الفنون الجميلة بجامعة لانكستر بإنجلترا، 2017.، وعلى شهادة الماستر (ماجستير) في الترجمة والتواصل والصحافة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة/المغرب، 2015.وعلى شهادة الإجازة (ليسانس، باكلوريوس) في الأدب الإنجليزي من جامعة عبد الملك السعدي، تطوان/المغرب سنة 1991.
تعليقات